ماذا يحدث نفسيًا للأم الجديدة بين التوقعات والواقع؟ سؤالٌ يطرح نفسه بقوّة مع كل ولادة جديدة. تعيش المرأة في هذه المرحلة مفترقًا نفسيًا معقّدًا، يتداخل فيه الفرح بالخوف، والطمأنينة بالقلق. فعلى الرغم من احتفاء المجتمع بالأمومة كحال فطرية ومثالية، إلا أن الواقع العاطفي والنفسي قد يكون مغايرًا تمامًا. حيث تصطدم الأم الجديدة بتجربة غير متوقعة من التغيّرات النفسية والتحديات والضغوط اليومية.
في هذا المقال، نُسلّط الضوء على الجوانب النفسية التي تمرّ بها الأم بعد الولادة، ونُحلل الفجوة بين التوقّعات الوردية التي تتشكّل قبل الإنجاب، والواقع المليء بالمشاعر المتناقضة. سنعتمد في الطرح على دراسات علمية موثوقة وأبحاث منشورة في مجلات نفسية وطبية دولية. وذلك كي تتمكّني من فهم ذاتكِ، وتتعاطفي مع مشاعركِ، وتحصّني علاقتكِ بذاتكِ وبطفلكِ.
ضغط التوقعات: الصور المثالية عن الأمومة
تبدأ التوقّعات قبل الولادة، حين تتلقّى الأم صورًا وردية من الإعلام والمجتمع عن مشاعرها المقبلة. غالبًا ما تُصوَّر الأم الجديدة على أنها تعيش حبًا فوريًا لطفلها، وتتمتّع بطاقة لا تنضب، وتتفانى بدون كَلَل.
لكن، في الواقع، تشعر العديد من الأمهات بصدمة نفسية حين لا تتطابق مشاعرهنّ الفعلية مع تلك التوقعات. أكّدت دراسة نُشرت في مجلة BMC Pregnancy and Childbirth عام 2019، أن أكثر من 40% من الأمهات يشعرن بالذنب لأن مشاعرهنّ لا تتماشى مع الصور النمطية للأمومة السعيدة.
هذه الفجوة بين الصورة المثالية والواقع تُنتج ضغطًا داخليًا، يدفع الأم نحو الانسحاب أو التظاهر. وهنا تحديدًا يبدأ فهم ماذا يحدث نفسيًا للأم الجديدة بين التوقعات والواقع؟
التغيرات النفسية بعد الولادة
تعيش الأم الجديدة سلسلة من التغيرات النفسية، تبدأ بما يُعرف بـ”الكآبة النفاسية” أو “Baby Blues”، والتي تصيب نحو 80% من النساء خلال الأسبوع الأول بعد الولادة. وتشمل هذه الحال تقلبات مزاجية، وبكاء مفاجئ، وصعوبة في التركيز. لكنّها غالبًا ما تزول في غضون أيام.
أما إذا استمرت العوارض أو ازدادت حدة، فقد تتطوّر إلى اكتئاب ما بعد الولادة (Postpartum Depression)، وهي حال تصيب نحو 10 إلى 15% من الأمهات الجدد. أوضحت دراسة نُشِرَت في Journal of Affective Disorders (2021)، أن هذه الحال تترافق مع عوارض مثل الحزن العميق، وفقدان الشغف، ونوبات قلق، وأفكار سلبية عن الذات والأمومة.
بالتالي، حين نتساءل ماذا يحدث نفسيًا للأم الجديدة بين التوقعات والواقع؟، نجد أن الاكتئاب يشكّل جزءًا مهمًا من هذا الانفصال بين التصور السابق والتجربة الفعلية.
العوامل المؤثرة في التوازن النفسي للأم
لا تتكوّن الحال النفسية للأم بمعزل عن السياق المحيط بها. هناك عدة عوامل تؤثر مباشرة على تجربتها، منها:
- الدعم الاجتماعي: كلّما كانت شبكة الدعم أضعف (زوج، وأهل، وأصدقاء)، زاد احتمال التدهور النفسي.
- الحرمان من النوم: النوم المتقطع يضعف الجهاز العصبي ويزيد التوتر.
- الضغوط الاقتصادية: القلق من تأمين مستلزمات الطفل يؤثر على استقرار المشاعر.
- الولادة الصعبة أو القيصرية: الألم الجسدي الطويل يؤخر التعافي النفسي.
كل هذه العوامل تفسّر جانبًا مهمًا من فهم ماذا يحدث نفسيًا للأم الجديدة بين التوقعات والواقع؟. إذ تساهم في رسم الواقع النفسي اليومي الذي لم يُناقَش في مرحلة الحمل.
كيف تحمين نفسكِ نفسيًا خلال هذه المرحلة؟
كي تتمكّني من عبور هذه المرحلة بسلام، اتبعي استراتيجيات نفسية واقعية ومدروسة، أثبتت فاعليتها في أبحاث متعددة:
- تقبّلي مشاعركِ مهما كانت: لا ترفضي الحزن أو القلق. المشاعر السلبية لا تلغي أمومتكِ، بل تثبت إنسانيتكِ.
- اطلبي المساعدة عند الحاجة: الدعم النفسي المهني ليس ضعفًا بل خطوة شجاعة.
- لا تقارني تجربتكِ بالصور المثالية: كل أم تعيش أمومتها بأسلوب مختلف.
- نظّمي وقتكِ للحصول على راحة: حتى دقائق قليلة من الاسترخاء تؤثّر إيجابيًا على حالكِ النفسية.
- عبّري عن نفسكِ بالكلام أو الكتابة: البوح يخفّف التوتر ويحرّر الضغط الداخلي.
إنّ اتّباع هذه التوصيات يسهّل عليكِ فهم التجربة بواقعية. كما يساعدكِ على خلق توازن بين الذات والدور الجديد.
الخلاصة
في النهاية، ماذا يحدث نفسيًا للأم الجديدة بين التوقعات والواقع؟ هو سؤال لا يملك إجابة واحدة. بل هو رحلة متغيّرة تبدأ مع الولادة ولا تنتهي. من المهم أن نفهم أن المشاعر المتضاربة، والمزاج المتقلّب، والتعب الشديد، ليست علامات فشل بل مظاهر طبيعية لتغيّر جذري في حياة الإنسانة.
الانتباه للصحة النفسية يجب أن يكون جزءًا أساسيًا من رعاية الأم وليس رفاهية مؤجّلة. فكلما فهمنا تعقيدات المرحلة، كلما استطعنا تقديم الدعم الحقيقي الذي تستحقه كل أم. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ لماذا تختلف غريزة الأمومة من امرأة لأخرى؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن على كل امرأة أن تُعيد تعريف الأمومة بأسلوبها الخاص، بعيدًا عن القوالب الاجتماعية. الأم المثالية ليست تلك التي لا تشتكي أو لا تبكي. بل التي تعترف بمشاعرها، وتطلب المساندة، وتعتني بنفسها كما تعتني بطفلها. حين تحتضنين ذاتكِ، تحتضنين أمومتكِ بأمان.
