هل تفصلين بين ضغوط العمل وتواصلك مع طفلك؟ سؤال بسيط في الظاهر، لكنه يعكس صراعًا داخليًا تعيشه أغلب الأمهات العاملات. فبين المهام المتراكمة في المكتب، والضغوط النفسية المتواصلة، تحتاج الأم إلى مهارة استثنائية لتكون حاضرة ذهنًا وقلبًا حين تعود إلى منزلها وتجد طفلها بانتظارها. لكن هل يكفي أن نتمنّى فقط أن نكون أمهات مثاليات؟ أم أن الأمر يتطلّب أدوات عملية وخطوات ملموسة لتحقيق توازن فعليّ؟
في هذا المقال، سنتناول أولًا آثار ضغوط العمل على علاقة الأم بطفلها، ثم نكشف الآلية العصبية والنفسية وراء صعوبة الفصل بين المجالين. بعد ذلك، نعرض الحيلة الذكية التي ينصح بها علماء النفس لتجاوز هذه المشكلة، قبل أن ننتقل إلى نصائح عملية مدعومة بالدراسات العلمية.
التوتر المهني ينعكس على علاقتك بطفلك
عندما تعودين إلى المنزل مثقلة بالشعور بالتعب والتوتر، يصعب عليك التفاعل بمرونة ودفء مع طفلك. في الحقيقة، وجدت دراسة نشرتها مجلة Journal of Family Psychology أن الأطفال يشعرون بتغير مزاج الأم مباشرة بعد عودتها من العمل، حتى إن لم تعبّر عن ذلك بالكلام.

لا يبقى التوتر المهني في المكتب. بل ينتقل إلى المنزل عبر نبرة الصوت، وتعابير الوجه، وحتى طريقة التفاعل مع الطفل. ومع تكرار ذلك يوميًا، قد يطوّر الطفل شعورًا بالقلق أو التوتر بمجرد رؤية والدته تعود من العمل، بحسب دراسة صادرة عن American Psychological Association عام 2021.
لذلك، من المهم جدًّا أن تدركي حجم تأثير ضغوط العمل على طفلك، ليس فقط على مستوى التفاعل اليومي. بل على تطوره العاطفي واللغوي على المدى البعيد.
لماذا يصعب علينا الفصل بين العمل والحياة العائلية؟
تفسّر الأبحاث العصبية هذا التداخل من خلال مفهوم “الانغماس الذهني”. عندما نكون منشغلين بمشاكل العمل، تنشط مناطق في الدماغ مرتبطة بالقلق والتنظيم التنفيذي، مثل قشرة الفصّ الجبهي. هذه المناطق تستمر في العمل حتى بعد مغادرة المكتب. ممّا يجعل العقل يسترجع تفاصيل الاجتماعات أو المهام غير المنجزة حتى أثناء تواجدنا مع أبنائنا.
وفقًا لدراسة نشرتها Harvard Business Review، فإن الأشخاص الذين لا يعتمدون على آليات للفصل بين العمل والمنزل، يعانون من انخفاض جودة علاقاتهم الأسرية بنسبة 37%. وهذا الرقم يعكس حاجة ملحّة لتبنّي حيلة ذكية تسهّل هذا الانتقال الذهني.
“طقوس الانتقال” بين العمل والمنزل
أثبتت الأبحاث أنّ اعتماد طقس انتقالي بسيط بعد الانتهاء من العمل يساعد الدماغ على التخلّي عن نمط التفكير المهني، والانتقال إلى نمط التواصل العاطفي مع العائلة.

هذه الحيلة قد تكون بسيطة جدًّا: مثل الاستماع إلى موسيقى مريحة في السيارة، أو ممارسة تمرين تنفّس لمدة خمس دقائق، أو حتى كتابة ثلاث أفكار إيجابية قبل دخول المنزل.
في دراسة حديثة من University of California, تم إجراء اختبار على 100 أمّ عاملة، نصفهنَّ قمنَ بممارسة “طقس الانتقال” قبل دخول المنزل، بينما لم تفعل النصف الآخر. النتيجة: الأمهات اللواتي اعتمدن هذا الطقس أظهرن تفاعلًا عاطفيًا أفضل مع أطفالهن، وقلّت لديهن مشاعر الذنب أو التوتر بنسبة 45%.
وبالتالي، فإن هذه الحيلة ليست مجرد رفاهية. بل هي استراتيجية مدروسة ومثبتة علميًا.
خطوات بسيطة لتطبيق الحيلة بنجاح
في ما يلي خطوات عملية يمكنكِ البدء بها اليوم:
- ضعي نهاية واضحة ليوم العمل: لا تردّي على الإيميلات بعد ساعة محددة.
- اعتمدي تمرين تنفّس بسيط: مثل تقنية 4-4-4 (الشهيق 4 ثوانٍ، والحبس 4، والزفير 4).
- احملي معكِ شيئًا يذكّرك بأمومتك: صورة لطفلك مثلًا، تساعدك على تذكّر الدور الذي ستعودين إليه.
- مارسي الامتنان: اكتبي في نهاية الدوام شيئًا واحدًا أنتِ ممتنّة له اليوم.
- غيّري ملابسك فور الوصول إلى المنزل: يساعد التغيير الجسدي على التغيير الذهني.
تُعَدّ كل هذه الخطوات أدوات بسيطة، لكن فعاليتها كبيرة جدًا في إعادة تهيئة النفس للتواصل مع الطفل، بعيدًا عن أي عبء مهني.
تذكّري أن العلاقة تحتاج إلى مساحة نظيفة
لا يكفي أن تعودي إلى المنزل جسديًا، بل المهم أن تعودي ذهنيًا وعاطفيًا. وهنا تتكرّر الحاجة للسؤال الأساسي: هل تفصلين بين ضغوط العمل وتواصلك مع طفلك؟ فإذا لم يكن الجواب واضحًا أو إيجابيًا، فقد حان الوقت لتجربة هذه الحيلة البسيطة التي يمكن أن تغيّر الكثير في علاقتك العائلية.

الأمومة لا تتطلّب الكمال، بل تتطلب الحضور. لذلك، لا تشعري بالذنب إذا كنتِ متعبة، لكن اسعي دائمًا إلى الفصل الصحيّ بين أدوارك المختلفة. فقط بهذه الطريقة، يمكنك أن تبني علاقة صحية وآمنة مع طفلك. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وطرحنا عليكِ سؤال: حين ينام طفلك.. هل تستغلين اللحظة لنفسك أم تبدأ “المهام”؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أنّ الحيلة التي تطرّقت إليها الدراسات ليست مجرد وسيلة لتخفيف الضغط. بل هي فلسفة حياة. كأم عاملة، أختبر يوميًا هذا التحدّي بين تحقيق الذات مهنيًا وبين الحفاظ على علاقة دافئة وصحية مع أطفالي. ووجدت أن “طقس الانتقال” البسيط، ولو لبضع دقائق، يساعدني على التوقف، والتنفّس، وعلى تذكير نفسي أن طفلي لا يحتاج إلى نسخة مثالية مني، بل يحتاج إلى حضوري الكامل. في النهاية، هل تفصلين بين ضغوط العمل وتواصلك مع طفلك؟ الأمر ليس سهلًا دائمًا. لكن مع القليل من الوعي والكثير من الحب، يصبح التوازن ممكنًا وفعّالًا.