جهازكِ العصبي ليس مجرّد مجموعة من الخلايا والألياف التي تنظّم وظائف الجسد. بل هو سجلّ حيّ يحتفظ بتجاربكِ الأولى في الحياة، تلك التي مرّت بكِ في سنوات الطفولة المبكرة. ما شعرتِ به حينها، وما فهمه جسدكِ عن الأمان أو الخطر، ما زال يرافقكِ اليوم، يؤثّر على استجابتكِ اليومية للعالم من حولكِ.
وفي هذه المقالة، سنكشف كيف يتشكّل الجهاز العصبي في السنوات الأولى، وكيف يمكن للتجارب المبكرة — حتى لو لم تكن صدمات كبيرة — أن تبرمج أجسادنا للبقاء في حالة دفاع. سنفهم أيضًا كيف يمكننا إعادة برمجة هذا النظام لنستعيد الشعور بالأمان الداخلي.
البرمجة المبكرة للجهاز العصبي
يتشكّل معظم الجهاز العصبي لدى الطفل قبل سن السابعة. خلال هذه السنوات، يتعلّم الجسم من دون وعي:

- ما الذي يمكن توقّعه من العالم.
- كيف يحافظ على الأمان.
- ما إذا كانت العلاقات مع الآخرين مصدر أمان أو تهديد.
هذه “الدروس” لم تكن خيارات واعية. بل كانت أحاسيس متكرّرة عاشها الطفل في بيئته، وتحوّلت إلى إعدادات افتراضية للجهاز العصبي.
ما الذي يعنيه الشعور بعدم الأمان في الطفولة؟
حتى في غياب الصدمات الكبرى، قد يشعر الطفل بعدم الأمان في مواقف شائعة مثل:
- التوتّر الدائم في المنزل.
- سماع عبارات مثل “توقّف عن البكاء”.
- تلقّي حبّ مشروط بأداء معيّن.
- الشعور بأنّه غير مرئي أو غير مسموع.
- التعرّض لضغط دائم ليكون “جيّدًا” دومًا.
المشكلة ليست في شدّة هذه التجارب، بل في تكرارها ومدى تأثيرها في الجهاز العصبي.
استجابة الجسم للتأقلم مع الضغط العاطفي
حين يتكرّر الضغط العاطفي من دون وجود دعم أو احتواء، يتكيّف الجهاز العصبي:
- يتأهّب باستمرار لاحتمال الخطر.
- يتوقّع الانفصال العاطفي بدلًا من التواصل الآمن.
- يبقى في وضع الحماية الذاتية.
الضغط السامّ وتأثيره العميق
ما يُعرف بالضغط السامّ Toxic Stress هو ضغط مزمن في الطفولة يؤثّر في نمو الدماغ والجسم. من نتائجه:
- ضعف في تنظيم العواطف.
- صعوبات في الذاكرة.
- اضطراب توازن الاستجابة بين الضغط والهدوء.
- مشاكل في التركيز والسيطرة على الاندفاعات.
من المهم أن تعرفي: أنتِ لستِ “معطّلة”. ما يحدث هو أنّ جسدكِ مبرمج للبقاء على قيد الحياة.
كيف تتشكّل أنماط الدفاع المبكّرة؟
عندما يفتقر الجهاز العصبي إلى الشعور بالأمان، يبدأ ببناء دفاعات:
- اليقظة المفرطة (الانتباه الدائم لأي تهديد محتمل).
- الهروب (الانشغال الدائم للهروب من الأحاسيس الصعبة).
- التجمّد (فقدان الإحساس العاطفي والجسدي).
- الاسترضاء (إرضاء الآخرين لتجنّب النزاعات).
- الانسحاب العاطفي (الانغلاق الداخلي لتفادي الألم).
هذه الاستجابات ليست عيوبًا، بل آليات بقاء.
التعلّم المشترك لتنظيم العواطف
الأطفال لا يتعلّمون تهدئة أنفسهم وحدهم؛ بل يحتاجون إلى رعاية هادئة ومتّزنة من البالغين. حين يجد الطفل هذا الحضور الداعم، يتعلّم:
- أنّ من الطبيعي الشعور بالمشاعر المختلفة.
- أنّه يستطيع العودة إلى حالة الهدوء.
- أنّه ليس بحاجة إلى كبت مشاعره أو الانفجار بها.
عندما يغيب هذا النوع من الرعاية، نحمل آثار هذا النقص في حياتنا كبالغين.
الآثار الجسدية المستمرّة
للضغط في الطفولة آثار جسدية حقيقية، منها:
- ارتفاع مستويات الكورتيزول (هرمون الضغط).
- ضعف في جهاز المناعة.
- ضعف في مرونة العصب المبهم (vagal tone)، الذي يساعد الجسم على مواجهة الضغط.
حتى الجينات نفسها يمكن أن تتأثّر بهذه البرمجة، وتنتقل أنماط البقاء عبر الأجيال.
كيف يظهر ذلك في سلوكنا اليومي؟
في مرحلة البلوغ، قد تظهر آثار البرمجة المبكرة بطرق مثل:
- إرضاء الآخرين على حساب الذات.
- تجنّب الراحة أو الشعور بالذنب عند الاسترخاء.
- الإفراط في التفكير.
- الانغلاق العاطفي.
- نوبات غضب مفاجئة.
هذه الأنماط مفهومة تمامًا. والأهم: يمكن تغييرها.
إعادة برمجة الجهاز العصبي
جهازكِ العصبي ليس ثابتًا. هو مرن ويستطيع التعلّم من جديد. بدعم مناسب، يمكن لجسدكِ أن يتعلّم:
- كيف يشعر بالأمان مجدّدًا.
- كيف يعالج المشاعر بدلًا من كبتها.
- كيف يعود إلى حال الهدوء دون الحاجة إلى الانغلاق أو الانفجار.
الشفاء لا يعني القوّة الجبريّة، بل إعادة تشكيل الأنماط بوعي ولطف.
إنّ فهم كيف أثّرت تجارب الطفولة في أجسادنا هو الخطوة الأولى نحو الشفاء. حين تدركين أنّ ردود فعلكِ اليوم ليست “أخطاء شخصية”، بل استجابات بيولوجية بُنيت في ظروف معيّنة، يمكنكِ حينها أن تعيدي التواصل مع نفسكِ بلطف، وأن تمنحي جسدكِ فرصة لإعادة التعلّم والشعور بالأمان. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وعرضنا لكِ 12 خطوة يومية لا تهمليها للمحافظة على صحتك النفسية!