ماذا يحتاج الطفل فعلًا من أمه؟ سؤال يتكرّر على لسان كل أمّ، خاصّةً في السنوات الأولى من حياة طفلها. في هذه المرحلة الحسّاسة، لا تكفي العناية الجسدية وحدها، بل يحتاج الطفل إلى الدعم النفسي، والتواصل العاطفي، والتحفيز المعرفي. كل لمسة، كل نظرة، كل كلمة، تشكّل جزءًا من خريطته العصبية، وتؤثّر على تطوّره مدى الحياة.
في هذا المقال، سنشرح بالتفصيل ماذا يحتاج الطفل فعلًا من أمه؟ منذ اللحظات الأولى بعد الولادة، حتى اليوم الذي يخطو فيه أولى خطواته. سنناقش خمسة جوانب رئيسية تساعدكِ في بناء علاقة متينة مع طفلك: الترابط العاطفي، والتحفيز الحسي، وبيئة الأمان، والنمو الحركي، وأهمية الاستجابة الواعية. سنعتمد في هذا على دراسات علمية موثوقة، مع شروحات عملية، كي تتمكني من تطبيقها يوميًا.
1- الترابط العاطفي
منذ الدقائق الأولى بعد الولادة، يبدأ الترابط العاطفي بالتكوّن. هذا الترابط هو أساس الأمان النفسي لدى الطفل.

حين تحملين طفلك، يفرز دماغه هرمون “الأوكسيتوسين”، المعروف بهرمون الحب. هذا الهرمون يساعده على تهدئة نفسه، ويعزّز شعوره بالدفء والأمان. بيّنت الدراسات الحديثة، مثل دراسة جامعة كولومبيا (2021)، أن الأطفال الذين يحصلون على احتضان متكرر وتفاعل حنون من الأم، يكون لديهم نمو عصبي أفضل واستجابة أقل شعور بالتوتر والقلق.
بكلمات أخرى، يحتاج الطفل فعلًا من أمه أن تكون حاضرة بقلبها قبل يدها. أن تحمله، وتلمسه، وتهمس له. هذه اللحظات الصغيرة تزرع بداخله الثقة في نفسه والعالم.
2- التواصل البصري والصوتي
في عمر مبكر، لا يفهم الطفل الكلمات، لكنه يفهم النظرات والأصوات.
حين تنظرين في عينيه وتتحدثين بلطف، يبدأ دماغه بالتعلّم. بحسب أبحاث “مركز هارفارد لتنمية الطفل”، فإن التفاعل الصوتي بين الأم والطفل يُنشّط مناطق اللغة في دماغه، ويزيد من قدرته على التركيز لاحقًا.
لهذا السبب، تكلّمي معه كثيرًا. احكي له ما تفعلين، غني له، ردي على أصواته. حتى لو لم يفهم الكلمات، فهو يشعر بنبرة صوتك ودفء تعابيرك. فالأم التي تغني لطفلها تقدّم له الكثير.
وبالتالي، ماذا يحتاج الطفل فعلًا من أمه؟ أن تكون صوته الأول، ووجهه المألوف، ومصدره الأوّل للتواصل.
3- التحفيز الحسي
الحواس هي أدوات الطفل لفهم العالم. خلال أول سنتين، يعتمد الطفل على اللمس، والنظر، والسمع، والشم في استكشاف بيئته. كل لعبة يلمسها، وكل صوت يسمعه، وكل نسيج يشعر به، يترك بصمة عصبية في دماغه.

توصي الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بتوفير بيئة غنية بالمحفزات الآمنة. مثلًا: ألعاب قماشية بألوان واضحة، وأجراس ناعمة، وصور لأوجه بشرية، وأصوات موسيقية هادئة.
ماذا يحتاج الطفل فعلًا من أمه في هذا المجال؟ أن تتيح له وقتًا كافيًا للاستكشاف. أن تجلس بجانبه وتشجّعه بلطف، أن تشرح له الأشياء، أن تسمح له بالتجربة بنفسه.
وببساطة، كل تجربة حسية صحيحة تصنع فارقًا في نموه العقلي.
4- بيئة الأمان النفسي
لا يمكن أن ينمو الطفل في جو مليء بالصراخ أو القلق.
الطفل يشعر بطاقة الأم. حين تكون هادئة ومطمئنة، يشعر بدوره بالاستقرار. أما في بيئة متوترة، فيرتفع لديه هرمون “الكورتيزول”، ما يؤثّر على نومه، ومزاجه، وحتى مناعته.
حسب دراسة نُشرت في مجلة Developmental Psychology، الأطفال الذين يعيشون في بيوت يسودها الحب والاحترام، يكونون أكثر قدرة على التعامل مع التوتر في المستقبل.
بالتالي، يحتاج الطفل فعلًا من أمه أن تحميه من التوتر، لا أن تنقله إليه. أن تنظم يومه بمرونة، تهيّئ له روتين نوم مريح، وتجنّبه النقاشات الحادة.
حتى نبرة صوتك، طريقة حملك له، كلها تنعكس على شعوره الداخلي.
5- الاستجابة الواعية
الطفل لا يبكي من دون سبب. كل بكاء هو رسالة. أحيانًا يشعر بالجوع، وأحيانًا بالوحدة. أحيانًا لا يريد سوى أن تكوني قريبة. وهنا، تكمن أهمية الاستجابة الواعية. أي أن تميزي بين أنواع البكاء، وتستجيبي بهدوء وتعاطف.

توضح نظرية “الارتباط الآمن” (John Bowlby) أن الطفل الذي يشعر بأن أمه تفهمه وتلبي احتياجاته من دون انفعال، ينمو وهو يشعر بالأمان الداخلي.
إذًا، ماذا يحتاج الطفل فعلًا من أمه؟ يحتاج أن تستمع له بقلبها، لا أن تُسكت صوته فورًا. أن تضع حدودًا بحب، لا بعصبية. وأن تكون صبورة، لا صارمة.
وبكلمات بسيطة، يريد أن يشعر بأنه مهم عندها، دائمًا.
الخلاصة
كل لحظة تمضينها مع طفلك تترك أثرًا لا يُمحى.
حين تسألين: “ماذا يحتاج الطفل فعلًا من أمه؟”، فأنتِ لا تبحثين عن قائمة جاهزة، بل عن وعي أعمق. الطفل لا يحتاج أمًا مثالية، بل أمًا تحاول، تحب، وتحضر. أمًا تعرف أن العلاقة مع طفلها تبدأ من القلب، وتنمو بالتفاصيل الصغيرة.
امنحيه حبًا غير مشروط. قولي له “أنا هنا”، في كل نظرة ولمسة. ولا تنسي أن العناية بنفسك جزء من عنايتك به. حين تكونين بخير، سيكون هو أيضًا بخير. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ ماذا يحدث نفسيًا للأم الجديدة بين التوقعات والواقع؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أؤمن أن الأمومة ليست مهمة فقط، بل رحلة طويلة من التعلّم، والعطاء، والتأمل. كل أمّ تملك في داخلها القدرة الفطرية على فهم طفلها، فقط إن أصغت لقلبها. لا تبحثي عن الكمال، بل كوني صادقة، وحنونة، وواعية. حين تُنصتين لاحتياجات طفلك من دون تسرّع، وتحتوين مشاعره من دون خوف، فإنك تبنين بداخله عالمًا من الثقة سيحمله لسنوات طويلة.