متى تكون مشاعر الذنب جزءًا من تجربة الأمومة؟ سؤالٌ يتكرّر بصوتٍ داخلي لدى كثير من الأمهات. خاصّةً في اللحظات التي يشعرن فيها بالعجز أو التقصير. تبدأ هذه المشاعر منذ اللحظة الأولى بعد الولادة، وترافق الأم خلال محطات التربية والتنشئة. فهل هذه المشاعر طبيعية؟ وهل تعكس حسّ المسؤولية أم تشير إلى ضغط نفسي داخلي؟
في هذا المقال، نناقش هذه المشاعر من منظور نفسي وعلمي. نسلّط الضوء على الأسباب الخفية وراءها، وآثارها على الصحة النفسية، وطرق التعامل معها بوعي وهدوء. سنعتمد على أبحاث موثوقة في علم النفس الأمومي، ونطرح حلولاً عملية لتخفيف حِدة هذه المشاعر، حتى تستطيعي التقدّم بثقة وطمأنينة في رحلتكِ كأم.
مشاعر الذنب في الأمومة
تظهر مشاعر الذنب عند الأم حين تشعر أنها لم تفعل “ما يكفي” لأجل طفلها. قد تبدأ هذه الأحاسيس في الأسابيع الأولى بعد الولادة، خصوصًا مع تقلب الهرمونات، وقلة النوم، وتراكم المهام.

وفقًا لدراسة نشرتها مجلة Maternal and Child Health Journal، أكثر من 70٪ من الأمهات الجدد يشعرن بالذنب خلال الأشهر الأولى، بسبب قرارات تتعلق بالرضاعة الطبيعيّة، والنوم، وحتى العمل خارج المنزل. كل قرار، مهما بدا صغيرًا، قد يُشعر الأم بالقلق من تأثيره على طفلها.
أيضًا، تُغذّي وسائل التواصل الاجتماعي هذه المشاعر. إذ تُقدَّم صورة مثالية ومفلترة للأمومة، ما يجعل الأمهات يقارنّ أنفسهن بنماذج غير واقعية. وهنا، تصبح مشاعر الذنب عبئًا إضافيًا.
أسباب خفية تعزز الشعور بالذنب لدى الأم
لا تنبع هذه المشاعر فقط من الواقع اليومي، بل من عوامل أعمق مرتبطة بالنشأة والتوقعات المجتمعية. كثير من الأمهات تربينَ على نموذج “الأم المضحية”، ما يجعلهنّ يضعن أنفسهن في موقع المذنبة تلقائيًا عند أي تقصير.
أيضًا، يؤثر الشعور بفقدان السيطرة دورًا مهمًا. فعندما تمر الأم بظروف خارجة عن إرادتها، كولادة مبكرة أو مرض طفلها، تبدأ بلوم نفسها رغم أن الأمر خارج عن إرادتها.
أضف إلى ذلك، أن الأمهات العاملات يتعرضن لمستوى مضاعف من الضغط. فبحسب بحث من جامعة Harvard، تشعر الأمهات العاملات بنسبة 60٪ بضغط نفسي ناتج عن محاولة التوازن بين العمل والعائلة. وهو ما يعزز الشعور بالذنب المستمر.
آثار مشاعر الذنب على الصحة النفسية والعلاقة مع الطفل
عندما تتراكم مشاعر الذنب، تبدأ بتأثير مباشر على صحة الأم النفسية. قد تؤدي إلى انخفاض الثقة بالنفس، أو اضطرابات النوم، أو حتى عوارض اكتئابية مزمنة. وفقًا لتقرير صادر عن American Psychological Association، الأمهات اللواتي يعانين من شعور دائم بالذنب أكثر عرضة للإرهاق العاطفي وفقدان الحماس تجاه الأمومة.

كما تؤثر هذه المشاعر على نوعية العلاقة بين الأم وطفلها. فالأم التي تُفرط في لوم نفسها قد تميل إلى الإفراط في الحماية أو تقديم تنازلات غير متوازنة. ممّا يعيق استقلالية الطفل ويُضعف قدرته على اتخاذ القرار.
من جهة أخرى، عندما ترى الأم نفسها “غير كافية”، فإنها ترسل هذه الرسالة بشكل غير مباشر إلى طفلها. وهنا، يتكوّن لدى الطفل شعور بأنه مصدر عبء، ما قد ينعكس سلبًا على نموه العاطفي.
كيف تتعاملين مع مشاعر الذنب بحكمة ووعي؟
أول خطوة هي الوعي بأن هذه المشاعر شائعة وطبيعية. لا تعني أنكِ “أم سيئة”، بل على العكس، هي دليل على حبكِ الكبير لطفلكِ. تقبّلي هذه المشاعر كجزء من التجربة، لكن لا تسمحي لها أن تُحدّد قيمتكِ كأم.

ثانيًا، اعتمدي أسلوب الحوار الداخلي الرحيم. بدلًا من أن تقولي لنفسك: “أنا فشلت”، قولي: “أنا بذلت جهدي وسأتعلم من هذه التجربة”. استخدام كلمات لطيفة مع الذات يُخفّف من التوتر الداخلي، ويعزّز الصحة النفسية.
ثالثًا، خذي فترات راحة. لا تعني الراحة أنكِ تتخلّين عن مسؤولياتك، بل تمنحين نفسكِ فرصة لإعادة الشحن. بحسب World Health Organization، تخصيص وقت للرعاية الذاتية يساهم في تحسين جودة العلاقات الأسرية ويُقلّل من مستويات التوتر.
أيضًا، تحدثي مع أمهات أخريات. تشارُك التجارب يُظهِر لكِ أن ما تمرّين به ليس استثنائيًا، بل إن الكثيرات يشعرن بالمثل. الدعم الاجتماعي عامل أساسي في التخفيف من الشعور بالذنب، وفقًا لدراسة من University of Michigan.
أخيرًا، ضعي حدودًا واقعية لتوقّعاتك. لا يوجد شيء اسمه “أم مثالية”. هناك أم تُحب، وتُحاول، وتتعلم. هذا كافٍ.
الخلاصة
إذًا، متى تكون مشاعر الذنب جزءًا من تجربة الأمومة؟ تكون هذه المشاعر حاضرة عندما تضغط الأمهات على أنفسهن للوصول إلى الكمال، أو حين يواجهن مواقف خارجة عن السيطرة. لكنها ليست قدرًا محتومًا. بإمكانكِ، عبر الوعي والتفهّم والدعم، أن تحوّلي هذه المشاعر إلى فرصة للنمو العاطفي والنفسي.
ذكّري نفسكِ دائمًا أن الأمومة لا تعني المثالية. بل تعني القرب، والحضور، والنية الصادقة في العطاء. كل أم تمرّ بلحظات ضعف، لكن قوتها تكمن في الاعتراف بها والتعامل معها بمحبة وتسامح. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن مفاجآت لا تتوقعينها في أول سنة من الأمومة.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن مشاعر الذنب ليست دليلًا على تقصير الأم. بل على رهافة مشاعرها وعمق ارتباطها بطفلها. لكنّني أؤمن أن هذه المشاعر تحتاج إلى إدارة ذكية حتى لا تتحوّل إلى حمل ثقيل. أنصح كل أم بأن تمنح نفسها مساحة للتنفس، وأن تتصالح مع فكرة أنها إنسانة قبل أن تكون أمًا. فالرعاية الذاتية ليست ترفًا، بل ضرورة لبناء علاقة صحّية مع الطفل.