كيف تؤثر مشاعرك على نمو طفلك دون أن تشعري؟ يحمل هذا السؤال في طيّاته مفاجآت كثيرة لا تتوقّعينها. قد تظنّين أن مشاعرك هي شأن خاص بك، لكنّ العلم يثبت العكس. طفلك يشعر بك، ويلتقط ترددات عاطفتك، ويتفاعل معها منذ وجوده في رحمك. لا تمرّ حالك النفسية مرور الكرام، بل تشكّل ركيزة أساسية في بناء شخصية الطفل، واستقراره، ونموه العصبي والمعرفي.
في هذا المقال، سوف نكشف كيف تترك مشاعرك أثرًا مباشرًا على دماغ طفلك وسلوكه وتطوره العاطفي. سنبدأ بالكشف عن تأثير التوتر المزمن، ثم ننتقل إلى قوة المشاعر الإيجابية. وبعدها نسلّط الضوء على العلاقة بين الدماغ والعاطفة، وصولًا إلى نصائح عملية تحافظين بها على توازنك الداخلي من أجل طفلك.
1- التوتر المزمن
التوتر اليومي يرافق حياة كل أم، ولكن حين يتحوّل إلى حال مزمنة، يصبح خطرًا على نمو الطفل. تشير دراسة منشورة في Journal of Child Psychology and Psychiatry أنّ الأطفال الذين تتعرّض أمهاتهم للتوتر المزمن يُظهرون نشاطًا زائدًا في منطقة اللوزة الدماغية. وهي المسؤولة عن معالجة الخوف والقلق.

عندما تشعرين بالتوتر والقلق المستمر، يفرز جسمك هرمون الكورتيزول، وهذا الهرمون يمكن أن يمرّ عبر المشيمة أثناء الحمل أو يُنقَل عبر لغة الجسد والصوت بعد الولادة. ما يحدث بعدها هو تفاعل دماغي لدى الطفل يعزّز من شعوره بعدم الأمان. مع الوقت، يؤثّر ذلك على قدرته على التركيز، والنوم، وحتى على تطوّره اللغوي.
إذًا، التوتر لا يخصّك وحدك. هو رسالة مباشرة تصل لطفلك وتؤثّر في جذور نموّه.
2- المشاعر الإيجابية
في المقابل، تُعتبر المشاعر الإيجابية مثل الفرح، والامتنان، والطمأنينة، من أهم العوامل التي تساهم في تطوّر الطفل بشكل سليم. في دراسة أجرتها جامعة Harvard، وجد الباحثون أن الأطفال الذين يعيشون في بيئة مستقرة عاطفيًا، يكون لديهم تطوّر أسرع في المهارات المعرفية والقدرة على ضبط النفس.
عندما تضحكين أمام طفلك، أو تعبّرين عن حبك له بحنان ودفء، فإنك بذلك تحفّزين إفراز هرمون “الأوكسيتوسين” لديه، وهو الهرمون المتعلّق بالارتباط والثقة. هذا النوع من التواصل العاطفي يُعلّم الطفل كيف يُعبّر عن مشاعره بطريقة صحية، ويمنحه شعورًا داخليًا بالأمان.
بكلمات بسيطة: المشاعر الجميلة التي تعيشينها تنمو داخله وتبني فيه أسس القوة النفسية.
3- الدماغ والعاطفة
الدماغ لا ينمو في عزلة عن المشاعر. على العكس، البيئة العاطفية تُشكّل تركيبته الوظيفية. في السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل، يتطور دماغه بسرعة هائلة، ويكون حساسًا جدًا للمؤثرات العاطفية من حوله. وفقًا لتقرير من The Center on the Developing Child at Harvard University، فإن التجارب العاطفية المبكرة تُعيد تشكيل المسارات العصبية في الدماغ.

مثال على ذلك: عندما تشعرين بالقلق وتعجزين عن التعبير عنه بوضوح، يلتقط طفلك تلك الإشارات من صوتك، ومن تعابير وجهك، ومن طريقة حملك له. في المقابل، عندما تتعاملين مع مشاعرك بوعي وتوازن، ينمو لديه الشعور بالثبات والطمأنينة.
هنا تظهر أهمية الوعي العاطفي، لأن الطفل لا يفهم الكلمات. بل يفهم المشاعر ويُبرمج دماغه عليها.
4- طفلك مرآة لكِ
من المهم أن تدركي أن طفلك لا يراقب فقط ما تقولينه، بل يعيش ما تشعرين به. هو لا يميّز بين السبب والنتيجة، لكنه يشعر بالتوتر، ويلاحظ الغضب، ويخاف من الصمت المفاجئ. هذه التفاعلات تُصبح مرجعًا داخليًا له حول كيفيّة التعامل مع المشاعر في المستقبل.
بحسب نظرية Attachment Theory لعالِم النفس “جون بولبي”، فإن الترابط العاطفي بين الأم والطفل هو الركيزة الأساسية لنمو شخصية الطفل وتكوينه النفسي. فكل لحظة حنان، وكل حضن دافئ، تترك أثرًا طويل الأمد في ذاكرته الانفعالية.
طفلك يتعلّم من خلالك، من دون أن يتكلّم. يرى كيف تتعاملين مع ذاتك، ويقلّدك، بدون أن تدركي.
5- كيف تحافظين على توازنك العاطفي؟
الخطوة الأولى هي الوعي. أن تعترفي بمشاعرك، وتتعاملي معها بصدق، من دون إنكار أو تهرّب. خصّصي وقتًا يوميًا لنفسك، حتى لو كان عشر دقائق فقط. مارسي التأمل أو التنفس العميق. استعيني بشبكة دعم من الأصدقاء أو العائلة.

تؤكد الجمعية الأمريكية لعلم النفس (APA) أن العناية بالصحة النفسية للأم ليست رفاهية، بل ضرورة لنمو الطفل بشكل صحي. احصلي على قسط كافٍ من النوم، وتناولي طعامًا مغذّيًا، واطلبي المساعدة عند الحاجة. وتذكّري دائمًا أن طفلك لا يحتاج أمًا مثالية، بل أمًا حقيقية، وصادقة مع مشاعرها.
الخلاصة
كيف تؤثر مشاعرك على نمو طفلك دون أن تشعري؟ الجواب هو: تؤثر بشكل عميق وخفي ومستمر. من التوتر والقلق، إلى الفرح والحب، كل شعور يمرّ في داخلك يُترجم إلى إشارات يتلقّاها طفلك ويُعيد بناء ذاته من خلالها. لا تقلّلي من قيمة اللحظات اليومية التي تمرّين بها، لأنها تشكّل البنية النفسية لطفلك. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ ماذا يحتاج الطفل فعلًا من أمه؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أجد أن العناية بمشاعرنا كأمهات ليست فقط مسؤولية تجاه أنفسنا، بل هي استثمار مباشر في مستقبل أطفالنا. كل لحظة نختار فيها الهدوء بدل الانفعال، وكل مرة نعالج فيها تعبنا الداخلي بلطف، نمنح أبناءنا فرصة للنمو بثقة وأمان. المشاعر ليست عبئًا، بل أداة نبني بها أجيالًا أقوى نفسيًا وأكثر اتزانًا.