هل تسامحين شريكك لأنك قوية.. أم لأنك تعبتِ من المقاومة؟ سؤال يطرق قلبكِ في لحظة هدوء بعد عاصفة من الخيبات والمشاكل الزوجية. إنه سؤال يختصر مشاعر مختلطة بين الكرامة والحب، وبين الإصرار والاستسلام. تمرّين بتجارب مختلفة، وكلّ تجربة تترك فيكِ أثرًا عميقًا، وربما تغيركِ من الداخل. لكن، هل قرار التسامح فعلًا نابع من قوّة؟ أم أنه مجرد تعبير عن الإنهاك؟
في هذا المقال، سنغوص معًا في تحليل نفسي وعلمي لهذا السؤال الصعب. سنفكك المشاعر ونكشف ما تقوله الأبحاث عن التسامح، والإرهاق العاطفي، وآليات الدفاع، والنضج النفسي. سنتوقف عند دور الذاكرة، وتغيّرات الدماغ، وتأثير العلاقة على الصحة النفسية. وفي النهاية، نطرح السؤال من جديد، لكن هذه المرة بنظرة أوضح.
التسامح: قوّة داخلية أم هروب من المواجهة؟
غالبًا ما يُصوَّر التسامح كفعل نابع من الشجاعة والنضج. وفقًا لدراسة نُشرت في مجلة Personality and Individual Differences (Witvliet et al., 2001)، فإن الأفراد الذين يسامحون يشعرون بانخفاض في معدلات التوتر، وتحسّن في مؤشرات صحة القلب، ونشاط أكبر في المناطق الدماغية المرتبطة بالتعاطف.

لكن في المقابل، أظهرت أبحاث أخرى أن بعض الأشخاص يسامحون بدافع الخوف من الفقد، أو بسبب عدم القدرة على تحمّل المواجهة. هنا، لا يعود الفعل مرتبطًا بالقوة بل بالإرهاق الذهني. فهل تسامحين شريكك لأنك قوية.. أم لأنك تعبتِ من المقاومة؟
التعب العاطفي: حين يتحوّل الصبر إلى استنزاف
الإرهاق العاطفي هي حال موثَّقة في علم النفس، وتنتج عن الضغط المستمر، والخذلان المتكرر، وفقدان الأمل في التغيير. بيّنت دراسة من جامعة ستانفورد (Maslach & Leiter, 2016) أنّ الشعور بالإرهاق لا يقتصر على العمل بل يمتد إلى العلاقات العاطفية.
عندما تواجهين مواقف مؤذية بشكل متكرر، يبدأ دماغكِ في تفعيل ما يُعرف بـ “اللامبالاة الدفاعية”، وهي آلية تحميكِ من الانفجار النفسي، لكنها تجعل التسامح يبدو وكأنه راحة مؤقتة. ببساطة، تتوقفين عن القتال، ليس لأنكِ غفرتِ، بل لأنكِ لم تعودي قادرة على المقاومة.
ما السبب الحقيقي وراء مسامحة الشريك؟
العاطفة لا تتحكم فيها الإرادة وحدها، بل تدخل فيها تركيبة معقدة من هرمونات مثل الكورتيزول (المسؤول عن التوتر) والأوكسيتوسين (هرمون الترابط). عندما تتعرضين للخذلان، يزداد الكورتيزول، ويؤثر ذلك على مراكز الذاكرة والتركيز.

من جهة أخرى، العلاقة الطويلة تحفّز إفراز الأوكسيتوسين، ما يجعل الانفصال صعبًا والتسامح أسهل، حتى وإن كان مؤلمًا. إذًا، هل تسامحين شريكك لأنك قوية.. أم لأنك تعبتِ من المقاومة؟ أو لأن دماغكِ نفسه يدفعكِ لذلك لتخفيف الشعور بالألم؟
بين القوة والاستسلام: كيف تميزين الفرق؟
قد تشعرين أنك سامحتِ لأنكِ قوية، لكن هل اختفى الألم؟ أم ما زلتِ تحملين جروحًا في داخلك؟
القوة تعني أن تسامحي مع الاحتفاظ بحقوقكِ، وأن تراقبي سلوك الآخر وتضعي حدودًا واضحة. كما أنّها تعني أنكِ سامحتِ، ولكنكِ تعلمين متى تغادرين لو تكرّر الأذى.
أما الإرهاق، فيدفعكِ إلى الصمت. تتخلين عن المواجهة لتجنب التعب، وتبتلعين الألم على أمل أن يتغير الشريك من تلقاء نفسه. الفرق واضح: التسامح القوي يمنحكِ طمأنينة، أما التسامح بدافع الإرهاق، فيترككِ خائفة وتائهة.
تحليل اجتماعي ونفسي
من منظور مجتمعي، تعلّمت الكثير من النساء أن الصبر فضيلة، وأن التضحية جزء من الحب الحقيقي. لكن الدراسات الحديثة ترفض هذه النظرة الأحادية.

في دراسة نُشرت في Journal of Marriage and Family (2018)، وُجد أن النساء اللواتي يضعن حدودًا واضحة، ويعرفن متى ينهين العلاقة، يتمتعن بصحة نفسية أفضل على المدى الطويل. التسامح هنا لا يعني السكوت، بل القدرة على اتخاذ القرار المناسب لحماية الذات.
وهنا، يعود السؤال: هل تسامحين شريكك لأنك قوية.. أم لأنك تعبتِ من المقاومة؟ أو لأنكِ لم تعودي تعرفين الفرق بين الحنان والاستغلال العاطفي؟
خطوات عملية للتقييم الذاتي قبل اتخاذ قرار التسامح
لكي تميزي موقفكِ، اسألي نفسكِ الأسئلة التالية:
- هل أنا مرتاحة بعد التسامح؟
- هل توقّف الشريك عن الأذى؟
- هل أتحدّث بحرية؟ أم أتكتم؟
- هل يشعر هو بندم حقيقي؟ أم يكرّر أفعاله؟
- هل أحافظ على كرامتي؟
تساعدكِ الإجابة عن هذه الأسئلة على فهم دوافعكِ: هل هي قوة داخلية؟ أم مجرد تعَب؟
هل تسامحين شريكك لأنك قوية.. أم لأنك تعبتِ من المقاومة؟ سؤال ليس بسيطًا كما يبدو. يحتاج إلى وعي عاطفي، ومراقبة صادقة للنفس، وإدراك عميق للفارق بين المحبة والتضحية المؤذية.
التسامح ليس واجبًا، بل اختيار حر. وإن شعرتِ بأن التسامح يتطلب أن تضحّي بكرامتكِ أو راحة بالكِ، فربما لا يكون تسامحًا بل تعبًا متراكمًا يُسمى “استسلامًا”. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ لماذا يخاف الشركاء من طلب الراحة؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن التسامح لا يجب أن يُفرض على المرأة كدليل على الحب أو النضج. بل يجب أن ينبع من راحة داخلية، من قدرة على المواجهة، ومن بيئة تحترم قيمتها. وإن كان التعب أقوى من الصبر، فربما يكون الانسحاب أصدق من البقاء. التغيير يبدأ حين تعترفين بأنكِ تستحقين علاقة لا تحتاجين فيها إلى مقاومة مستمرة.