تبدأ فوائد القراءة للطفل في وقت مبكر جدًا، وتُحدِث فرقًا عميقًا في نموّه العقلي واللغوي والاجتماعي. منذ اللحظة التي تفتحين فيها كتابًا وتقرئين بصوتك لطفلك، يبدأ دماغه في بناء شبكات معرفية ولغوية تدوم طويلًا. لا تقتصر القراءة على تسلية مؤقتة، بل هي غذاء عقلي يؤثر في مستقبل الطفل العلمي والنفسي. وهذا عكس ما يفعله الهاتف بدماغ طفلك!
في هذا المقال، سنتناول في البداية أهم الفوائد العلمية المؤكدة للقراءة عند الأطفال. ثمّ ننتقل إلى تحديد العمر الأنسب للبدء، مع عرض لبعض النتائج المذهلة التي أثبتتها الأبحاث الحديثة. وأخيرًا، نعرض لكِ كيفية تطبيق القراءة في حياة الطفل اليومية بأساليب ممتعة وعلمية.
تنمية الدماغ منذ المهد
من المهم أن نعرف أنّ نمو الدماغ في السنوات الأولى من حياة الطفل يكون في أوجه، وهنا تبرز فوائد القراءة للطفل بوضوح.
أظهرت الدراسات أن القراءة بصوت مرتفع لطفلٍ صغير تُنشّط مناطق متعدّدة في الدماغ، خصوصًا تلك المسؤولة عن اللغة والفهم والتخيّل. في دراسة نشرتها الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال (AAP)، تبيّن أن الأطفال الذين تُقرأ لهم القصص يوميًا يظهر لديهم تطوّر لغوي ومعرفي أسرع بنسبة ٢٥٪ مقارنة بغيرهم.
بالإضافة إلى ذلك، تُساهم القراءة في تعزيز الاتصال بين نصفي الدماغ. ممّا يساعد على بناء مهارات التفكير النقدي والمنطقي في وقت لاحق. هذا ما يجعلها واحدة من أقوى الأدوات لدعم التطوّر العقلي منذ الولادة.
تحفيز النمو اللغوي والفهم المبكر
في هذه المرحلة، تؤدّي الكلمات التي يسمعها الطفل دورًا مهمًا في تشكيل قاموسه الداخلي.
عند الاستماع المتكرر للغة القصصيّة، يتعرّف الطفل إلى تراكيب لغوية جديدة ويكتسب مفردات تتجاوز اللغة اليومية. وفقًا لدراسة من جامعة ولاية أوهايو (Ohio State University)، الطفل الذي يُقرأ له يوميًا منذ الولادة يسمع ما يعادل ٢٩٠ ألف كلمة أكثر من الطفل الذي لا تُقرأ له.
هذا التعرّض اللفظي الهائل لا يُعزز فقط فهم اللغة، بل يزيد من قدرته على التعبير عن مشاعره وأفكاره بثقة. وهكذا، تصبح القراءة مدخلًا لتعلّم مهارات التواصـل الناجح والتفكير التحليلي المبكر. وهذا بدوره يساعد على علاج مشاكل تأخر الكلام عند الطفل.
دعم الصحة النفسية وبناء الروابط العاطفية
بالإضافة إلى النمو العقلي، تُساهم القراءة في بناء صحة نفسية متوازنة للطفل.
فعندما تحتضنين صغيرك وتقرئين له، ينشأ رابط عاطفي عميق بينكما. هذا التقارب يُشعر الطفل بالأمان، ويخفف من الشعور بالتوتر. خصوصًا في المراحل الانتقالية مثل دخول الحضانة أو قدوم أخ جديد.
كما تشير أبحاث جامعة نيويورك إلى أن الأطفال الذين يشاركون في جلسات قراءة منتظمة مع أهلهم يتمتّعون بمستويات أعلى من التكيّف الاجتماعي وقدرة أكبر على ضبط المشاعر.
وبذلك، تتجاوز فوائد القراءة للطفل الجانب المعرفي لتشمل التوازن العاطفي أيضًا.
متى تبدأ الفوائد بالظهور؟
ربما تتساءلين: هل من المجدي أن أبدأ بالقراءة لطفلي في سن الرضاعة؟
الإجابة العلمية هي: نعم، وبقوة. يبدأ دماغ الطفل بتكوين الروابط العصبية الخاصة باللغة منذ الشهور الأولى. بل حتى خلال الحمل، وفقًا لمراجعة بحثية نُشرت في دورية Child Development.
كما أظهرت دراسات حديثة أنّ الأطفال الذين تعرّضوا لسماع القراءة من عمر ٦ أشهر أظهروا أداءً أفضل في اختبارات اللغة والفهم بعمر ٣ سنوات.
كل قراءة تقومين بها الآن تُساهم في بناء أساس معرفي متين لطفلك، فكل لحظة قراءة تُعَدّ استثمارًا بعيد المدى في ذكائه وتقدّمه الدراسي.
كيف تطبّقين القراءة بشكل فعّال في حياة طفلك؟
من السهل دمج القراءة في حياة الطفل اليومية بطرق بسيطة وممتعة.
ابدئي بروتين قراءة يومي، ولو لدقائق قليلة قبل النوم. اختاري كتبًا تحتوي صورًا مُلوَّنة وكلمات واضحة. غيّري نبرة صوتك، وشاركي الطفل في تقليد الأصوات والحركات.
كل هذه الأمور تُعزّز تفاعل الطفل مع القصة وتُنمّي خياله. كما يُنصَح بمرافقة القراءة بأسئلة بسيطة، مثل: “ماذا تتوقّع أن يحدث الآن؟” أو “هل رأيت حيوانًا كهذا من قبل؟”، ما يُحفّز مهارة التوقّع والاستنتاج.
أخيرًا، وبعد تطبيق النصائح السابقة، خصّصي مكانًا صغيرًا في المنزل لمكتبة الطفل. بعد ذلك، اختاري له بعض الكتب المناسبة لعمره. حتى لو احتوت هذه المكتبة عدد محدود من الكتب، فإن رؤية الكتب أمامه باستمرار تُحفّزه تلقائيًا على فتحها وتصفّحها. في كل مرة يراها، يشعر بالفضول. وبهذه الطريقة، يكتسب عادة القراءة يومًا بعد يوم، دون أن يشعر بأنها مفروضة عليه.
الخلاصة
من الواضح أنّ فوائد القراءة للطفل لا تُعَدّ ولا تُحصى. هي ليست نشاطًا جانبيًا، بل ركيزة في بناء عقل متّزن، وقلب سليم، وشخصية مستقلة.
تُعزّز القراءة مهارات التفكير بشكل ملحوظ، ثم تُقوّي اللغة تدريجيًا، وبالتالي تُعمّق الروابط الأسرية يومًا بعد يوم. ومع مرور الوقت، يبدأ كل ذلك من لحظة مبكرة جدًا. علاوةً على ذلك، تؤكد الأبحاث أن كل دقيقة تمضينها في القراءة لطفلك تترك بصمة واضحة في مستقبله. لذلك، لا تنتظري حتى يكبر، بل ابدئي اليوم، ومن الآن فصاعدًا، اجعلي القراءة عادة يومية ثابتة. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن كيفيّة علاج التأتأة عند الأطفال.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أنّ القراءة تشكّل واحدة من أعظم الهدايا التي أقدّمها لطفلي كلّ يوم. في البداية، أُدرك تمامًا أن زمني مزدحم، لكنني أُخصص لحظة بسيطة أملأها بالدفء من خلال كتاب صغير. ثمّ، أُلاحظ كيف تُشعل الكلمات الخيال في عينيه، وكيف تُنير المعرفة طريقه. في كل مرّة أقرأ له، أُعزّز علاقتي به، وأُعمّق شعوره بالأمان. في الواقع، تكثر الشاشات والمشتتات من حولنا. مع ذلك، أُحافظ على لحظة القراءة كمساحة نقاء وصدق بيني وبينه. بعد كل قراءة، أُشجّعه على طرح الأسئلة وأُشيد بإجاباته. وهكذا، أفتح له نافذة على عالم مليء بالحب والمعرفة والأمل. أخيرًا، أؤمن أن كل قصة أقرأها معه، تُمثّل حجر أساس في بناء جيلٍ جديد أكثر وعيًا، وأكثر إحساسًا، وأكثر ثقافة.
