هل فقدنا “الوقت العائلي” لصالح الشاشات؟ سؤال يفرض نفسه بقوة في عصر باتت فيه الأجهزة الذكية ضيفًا دائمًا على موائد الطعام، ومنافسًا شرسًا لأحاديث المساء بين أفراد العائلة. لم يَعُد مشهد الأطفال الغارقين في مقاطع الفيديو، أو الوالدين المشتتين بين الإشعارات، أمرًا غريبًا. دخلت التكنولوجيا بيوتنا من أوسع أبوابها، لكنها تسلّلت تدريجيًا إلى قلوب علاقاتنا، فهل نحن واعون لما فقدناه؟
سنتناول في هذا المقال الواقع المتغير للروابط العائلية، ونكشف كيف أثرت الشاشات على مفهوم “الوقت العائلي”، مستندين إلى أبحاث علمية ودراسات موثوقة. كما سنحلل آثار هذا التغيّر على الصحة النفسية والاجتماعية، ونقترح حلولًا واقعية للحفاظ على دفء العلاقة الأسرية في زمن الرقمنة.
الوقت العائلي: من دفء اللقاء إلى برودة الشاشة
في السابق، كان الوقت العائلي يعني المشاركة. الجلوس معًا لتناول الطعام، وتبادل الأحاديث، وقراءة القصص، أو حتى اللعب الجماعي. هذه اللحظات كانت تبني الأمان والانتماء داخل الأسرة.

اليوم، اختلف المشهد. يجلس الجميع في المكان نفسه، لكن كل فرد منشغل بعالمه الرقمي. الأم تتابع مواقع التواصل، والأب يقرأ الأخبار، والأطفال يلعبون بالأجهزة. التواصل البشري تراجع، والمشاركة أصبحت نادرة.
أظهرت دراسة نشرتها Journal of Family Psychology عام 2020، أن استخدام الشاشات أثناء الأنشطة العائلية يخفض جودة التفاعل بنسبة 39%. وأكدت الدراسة أن الاستخدام المفرط للتكنولوجيا يؤدي إلى ضعف الروابط الأسرية وازدياد المشاكل السلوكية لدى الأطفال.
هل فقدنا “الوقت العائلي” لصالح الشاشات؟ أدلة علمية مقلقة
تدعم الأبحاث هذا السؤال الذي بات هاجسًا لدى كثير من العائلات.
أجرت جامعة هارفارد دراسة موسعة عام 2021 على 1500 عائلة. توصلت إلى أن 71% من الأهالي شعروا بتراجع واضح في التواصل العائلي بسبب الشاشات. كما وجد الباحثون أن متوسط الوقت الفعلي الذي يمضيه أفراد الأسرة في التفاعل الوجهي لا يتجاوز 34 دقيقة في اليوم.
وفي دراسة أخرى نشرتها Pew Research Center، أشار 46% من الأهل إلى أنهم يواجهون صعوبة في الحديث مع أطفالهم، لأن الأطفال يفضّلون تمضية الوقت مع الأجهزة. تؤكد هذه الأرقام أننا خسرنا كثيرًا من “الوقت العائلي” لصالح الشاشات.
النتائج لا تقف هنا. استخدام الشاشات لفترات طويلة يقلّل من إفراز هرمون الأوكسيتوسين، المعروف بهرمون الترابط. هذا ما يفسّر شعور التباعد العاطفي بين أفراد الأسرة رغم وجودهم في نفس المكان.
التأثير النفسي والاجتماعي: آثار تتجاوز اللحظة
الوقت العائلي لا يمنح فقط الذكريات، بل يشكّل الأساس النفسي لكل فرد.

غياب هذا الوقت يخلق فجوة في العلاقات. الأطفال الذين لا يعيشون لحظات أسرية حقيقية يعانون من مشاكل في التعبير العاطفي. يصبحون أكثر عرضة للشعور بالقلق، ويطوّرون سلوكيات انعزالية.
يشعر الأهل أيضًا بالوحدة. إنّ استخدام الهواتف كمهرب من الضغط اليومي يحرمهم من الدعم العاطفي الحقيقي الذي يقدمه الوقت العائلي. النتيجة: عائلات متباعدة، وأفراد منعزلون، ومنازل باردة على الرغم من الدفء المادي.
حذّرت دراسة من American Academy of Pediatrics من أن الأطفال دون سن العاشرة الذين يمضون أكثر من ساعتين يوميًا على الشاشات، يتعرضون لمشاكل في تطوير مهاراتهم الاجتماعية.
كيفيّة استرجاع الوقت العائلي
هل فقدنا “الوقت العائلي” لصالح الشاشات؟ ربما نعم، لكن يمكننا استعادته بخطوات واقعية.
أولًا: وضع قواعد واضحة. تحديد وقت يومي “خالٍ من الشاشات” أثناء الوجبات أو قبل النوم.
ثانيًا: تصميم أنشطة عائلية أسبوعية. وألعاب جماعية، وطهي مشترك، أو حتى الخروج في نزهة بسيطة.
ثالثًا: تقديم القدوة. الأهل الذين يغلقون هواتفهم خلال اللقاءات العائلية يُشجعون الأبناء على التصرّف بالمثل.
رابعًا: تقليل الاعتماد على الترفيه الرقمي. استبدال وقت الشاشة بقراءة الكتب أو المحادثة المباشرة.
كل دقيقة تُستعاد من قبضة الشاشات تُعيد جزءًا من الدفء الأسري المفقود.
مستقبل العلاقات العائلية: بين الخطر والفرصة
إذا استمر هذا الاتجاه، ستتحوّل العائلة من كيان تفاعلي إلى مجموعة أفراد يعيشون في جزر رقمية معزولة. لكن في المقابل، لدينا فرصة.

يمكننا استخدام الشاشات لتعزيز الوقت العائلي لا العكس. مشاهدة فيلم عائلي مشترك، ومناقشة محتوى تثقيفي، أو حتى إنشاء ذكريات رقمية معًا. التكنولوجيا أداة، وليست بديلًا عن العلاقة الإنسانية.
الدراسات تشير إلى أن الاستخدام المشترك للتكنولوجيا (co-viewing) يمكن أن يقوّي الروابط إذا تم بإشراف وتفاعل مباشر. المفتاح هو التوازن، لا الإلغاء.
الخلاصة
هل فقدنا “الوقت العائلي” لصالح الشاشات؟ الواقع يقول نعم، لكن الإجابة ليست نهائية. نحن لا نقف أمام مصير محتوم، بل أمام خيار. يمكننا أن نعيد بناء الروابط، وأن نستعيد الحوار، وأن نمنح أطفالنا لحظات أصيلة تشكّل ذاكرتهم العاطفية. الوقت العائلي لا يحتاج ميزانية، بل قرارًا. لحظة صادقة واحدة تساوي ساعات من التواجد الجسدي البارد. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وطرحنا عليكِ سؤال: هل انشغالك اليومي يسحب منك أجمل لحظاتك العائلية؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن العودة إلى الوقت العائلي أصبحت مسؤولية جماعية. لا يكفي أن ننتقد التكنولوجيا، بل يجب أن نعيد تعريف علاقتنا بها. من واجبنا كأمهات، وآباء، وتربويين، أن نحمي هذا الوقت من الذوبان في بحر الشاشات. علينا أن نخلق لحظات لا تُنسى بعيدًا عن الإشعارات والضوضاء الرقمية. فالعائلة، في جوهرها، ليست اتصالًا بشبكة.. بل اتصالًا بالقلب.