لا تُعَدّ الخلافات المستمرة بين الأهل مجرّد أحداث عابرة داخل جدران المنزل، بل هي تجربة معيشة يومية للطفل تؤثّر في وعيه، ومشاعره، ونظرته للعالم. عندما يعيش الطفل في بيئة تتكرّر فيها الخلافات بين الأب والأم، يبدأ تدريجيًا بفقدان شعوره بالاستقرار، ويطغى عليه الشعور بالقلق والتوتر. هذا الواقع لا يؤذي فقط هدوءه النفسي، بل يهدّد توازنه العاطفي وتطوّره الاجتماعي والمعرفي.
في هذا المقال، سنتناول أولًا التأثيرات النفسية التي تخلّفها الخلافات المستمرة بين الأهل في داخل الطفل. ثم نسلّط الضوء على المؤشرات التي يمكن أن تظهر عليه بسبب هذه النزاعات، لننتقل بعدها إلى شرح الآثار طويلة الأمد التي قد تلازمه حتى البلوغ. وسنختم بتقديم توصيات واقعية تساعد في التخفيف من هذه الأضرار.
١- التأثيرات النفسية
تترك الخلافات المستمرة بين الأهل آثارًا نفسية واضحة تبدأ من السنوات الأولى للطفل. يشعر الطفل في هذه البيئة بأنه مهدّد، حتى لو لم يكن طرفًا مباشرًا في النزاع. لأن الدماغ الطفولي لا يستطيع التمييز بين الخلاف الطبيعي والمواقف الخطرة. فصوت الصراخ وحده يُطلق استجابات جسدية تشبه ما يحدث في حالات الخوف الشديد.

بحسب دراسة نُشرت في مجلة Journal of Family Psychology، فإن الأطفال الذين يعيشون في أجواء يسودها الشجار المزمن، يُظهرون مستويات أعلى من الكورتيزول، وهو هرمون التوتر. ما يؤدي إلى تقلب المزاج، واضطرابات النوم، وفرط الحركة. هذه التغيرات الكيميائية تؤثر مباشرة على أداء الطفل في المدرسة، وعلى علاقاته مع أصدقائه.
٢- المؤشرات السلوكية
كثيرًا ما يظهر تأثير الخلافات المستمرة بين الأهل في سلوكيات الطفل اليومية. ينسحب بعض الأطفال إلى العزلة، ويفقدون الحافز للعب أو المشاركة الاجتماعية. بينما يتّجه آخرون إلى العدوانية، سواء من خلال العنف الجسدي أو الكلمات الجارحة، كرد فعل داخلي على ما يعيشونه في المنزل.
تشير دراسات متعددة، من بينها تقرير صادر عن American Psychological Association، إلى أن الأطفال الذين يتعرّضون باستمرار لمشاحنات الأهل، يعانون من صعوبات في تنظيم مشاعرهم. هم لا يفهمون لماذا يتشاجر الكبار، لكنهم يتأثرون بذلك بشكل عميق. عندها يُترجم هذا التأثير إلى توتّر دائم يظهر في سلوكياتهم اليومية.
٣- الأثر العاطفي والاجتماعي
تؤثر الخلافات المستمرة بين الأهل أيضًا على قدرة الطفل على بناء علاقات صحية. ففي أجواء يغيب عنها الاستقرار العاطفي، يتعلّم الطفل أن العلاقات تعني الصراع والتنازع، وليس الحب والتفاهم. هذا المفهوم الخاطئ يتسلل إلى صداقاته، ويصعّب عليه التعبير عن مشاعره بثقة.

في حالات كثيرة، يتكوّن لدى الطفل شعور خفي بالذنب، إذ يظن أنه سبب هذه الخلافات. هذا الشعور، وإن لم يُعبّر عنه لفظيًا، يظهر من خلال تراجع الأداء الدراسي أو الإلحاح على نيل رضا أحد الوالدين. بعض الأطفال يعانون من اضطرابات النطق، أو يتطوّر لديهم ما يُعرف بـ”قلق الانفصال”. وهو خوف دائم من فقدان أحد الأهل.
٤- الأثر طويل الأمد
عندما تستمر الخلافات بين الأهل لفترة طويلة من دون حل، تُزرع في الطفل أنماط سلبية يصعب التخلّص منها في المستقبل. يُظهر البالغون الذين عاشوا في بيئة عائلية متوتّرة نسبة أعلى من الاكتئاب الحاد، والتردّد في اتّخاذ القرارات، ومشاكل في الثقة بالآخرين.
وفقًا لبحث نُشر في Harvard University Center on the Developing Child، فإنّ التجارب السلبية في الطفولة، ومنها النزاعات العائلية المتكرّرة، تزيد من خطر الإصابة بالأمراض المزمنة، وتُضعف مهارات التكيّف في الحياة البالغة. كما ترتبط هذه الخبرات بانخفاض الثقة بالنفس، وبصعوبات في إدارة النزاعات بطريقة صحية في علاقات الحب والزواج لاحقًا.
٥- ما الحل؟ كيف يمكن التخفيف من الأثر؟
لا يعني وجود خلاف بين الأهل بالضرورة نهاية الاستقرار العائلي. ما يصنع الفرق هو طريقة إدارة هذا الخلاف. الأطفال لا يحتاجون إلى بيئة خالية من النزاعات، بل إلى أجواء تُعالج فيها الخلافات بهدوء واحترام. من الضروري أن يشعر الطفل أن والديه، رغم اختلافاتهما، يحترمان بعضهما ويضعان مصلحته فوق كل اعتبار.

يمكن للوالدين اعتماد بعض التقنيات مثل الاتفاق المسبق على عدم النقاش في الأمور الحساسة أمام الأطفال، وتوضيح أن الخلاف لا يعني الانفصال أو الكراهية. كما يُنصح بإشراك الطفل في جلسات عائلية بسيطة تشرح له أن الاختلاف طبيعي، وأن الحب لا يختفي بسبب التوتر المؤقت.
إلى جانب ذلك، يؤدّي العلاج النفسي دورًا مهمًا في دعم الأطفال المتأثرين بالخلافات المستمرة بين الأهل. يمكن لاستشارة مختصّ نفسي أن تساعد الطفل على فهم مشاعره، والتعبير عنها بشكل صحي، وبالتالي التخفيف من التوتر الداخلي الذي يشعر به.
الخلاصة
الخلافات المستمرة بين الأهل ليست مجرد مشاكل شخصية بين الزوجين، بل هي ظلال ثقيلة تُلقى على روح الطفل. كل خلاف يُدار بطريقة غير صحية هو لبنة تُضاف إلى جدار من القلق والخوف داخل هذا الطفل. ما يحتاجه الأطفال هو بيئة يشعرون فيها بالأمان، حتى وسط الخلافات، وأهل يدركون أن كل كلمة تُقال، وكل نظرة غاضبة، تترك أثرًا لا يُمحى. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن دور الأسرة في الصحة النفسية للطفل وكيفية تطويره.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن الخلافات أمر طبيعي في كل علاقة، لكن تكرارها من دون وعي، أمام الأبناء تحديدًا، هو جرح خفي قد لا يُشفى. لا يكفي أن نحب أبناءنا بالكلمات، بل علينا أن نوفر لهم بيئة عاطفية هادئة تُشعرهم بالطمأنينة. يجب أن نتذكّر دائمًا أن الطفل لا ينسى ما شعر به، حتى لو نسي ما سمعه. لذا، فلنختر أن نمنحه صوت الأمان بدلًا من صوت الخلاف.