تربية الأطفال مرهقة؟ بالتأكيد، ولا يمكن لأحد إنكار هذا الواقع. منذ لحظة ولادة الطفل، تبدأ الأم رحلة طويلة من العطاء الجسدي والعاطفي بلا توقف. فبين بكاء منتصف الليل، وإعداد الوجبات، ومرافقة الطفل في تعلّمه ونموّه، يتعرّض جسد المرأة ونفسها لضغطٍ كبير. وقد أثبتت الدراسات أنّ الأمهات يواجهن مستويات عالية من القلق والتوتّر والإرهاق تفوق ما يتعرّض له الموظفون في الوظائف الكاملة. لذلك، لا عجب أن تتردّد هذه الجملة على ألسنة الأمهات كثيرًا: “تربية الأطفال مرهقة؟ نعم، بكل ما تحمله الكلمة من معنى!”
في هذا المقال، نقدّم لكِ خطة علمية وعملية تحافظين من خلالها على طاقتك النفسية والجسدية خلال هذه الرحلة الصعبة. سنستعرض خطوات مدروسة ومثبتة علميًا، ونشرح كيف تؤثر على صحتك العامة، مع تقديم نصائح يمكنكِ تطبيقها بسهولة في حياتك اليومية.
افهمي جذور الإرهاق النفسي لدى الأمهات
أول خطوة لفهم التعب هي معرفة مصدره.

تشير الأبحاث الحديثة في علم النفس التربوي إلى أنّ السبب الرئيسي وراء شعور الأمهات بالإرهاق لا يعود فقط للجهد الجسدي، بل للمعاناة من الضغط النفسي المستمر. فالأم تشعر بمسؤولية تجاه كل تفصيل صغير في حياة طفلها، ما يؤدي إلى حالة تُعرف بـ”الاستنزاف العاطفي” (Emotional Exhaustion)، وهو مصطلح شائع في علم النفس لوصف التعب الناتج عن الاهتمام المفرط بالآخرين من دون الاهتمام بالنفس.
وأثبتت دراسة نُشرت في مجلة Frontiers in Psychology عام 2021 أن الأمهات اللواتي لا يحصلن على وقت كافٍ للراحة أو الدعم، يكنّ أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب الحاد والتعب المزمن بنسبة 60% مقارنةً بغيرهنَّ.
خصّصي وقتًا ثابتًا للعناية الذاتية
كل أم تستحق وقتًا لنفسها، حتى في خضم الفوضى.
العناية الذاتية ليست رفاهية، بل ضرورة بيولوجية للحفاظ على التوازن. تشير الأبحاث العلمية إلى أن تخصيص 20 إلى 30 دقيقة يوميًا لنشاط يُدخل السرور على النفس – سواء كان المشي، أو القراءة، أو التأمل – يُخفّض من مستويات هرمون الكورتيزول، المسؤول عن التوتر.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تنظيم هذا الوقت بصرامة – وكأنه موعد طبي – يساعد على تعزيز الشعور بالسيطرة، ويمنحك دفعة طاقة إيجابية لبقية اليوم. ابدئي بخطوات صغيرة، كأن تنهضي قبل الأطفال بنصف ساعة، أو تستغلّي ساعة نومهم في العناية بنفسك.
اطلبِي المساعدة من دون شعور بالذنب
لا يمكنكِ فعل كل شيء وحدكِ.

تربية الأطفال مرهقة؟ نعم، لكن الاستعانة بالزوج أو أحد أفراد العائلة أو حتى مقدّمة رعاية محترفة ليس دليل ضعف. بالعكس، هو مؤشر على إدراكك لحدود طاقتك. وأظهرت دراسة منشورة في Journal of Family Psychology أن الأمهات اللواتي يحصلن على دعم اجتماعي منتظم، يتمتّعن بمستوى أعلى من الرفاه النفسي والقدرة على مواجهة الضغوط.
وهذا الدعم يمكن أن يكون بسيطًا: مساعدة في ترتيب المنزل، أو حتى استراحة قصيرة من الأطفال. عبّري عن حاجاتك بوضوح وصدق، وابتعدي عن المثالية التي تُصوّر الأم الخارقة.
نظّمي روتين طفلكِ لتمنحي نفسك وقتًا منظّمًا
روتين الطفل هو المفتاح لتنظيم يومك.
عندما يعتاد الطفل على أوقات نوم واستيقاظ وأكل ونشاطات واضحة، يصبح من السهل توقّع احتياجاته. هذا التنظيم لا يساعده على النمو فحسب، بل يمنحكِ أيضًا مساحات قصيرة خلال اليوم للراحة أو إنجاز مهامك بهدوء.
بحسب توصيات الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال (AAP)، فإنّ اتباع جدول روتيني منتظم يُقلّل من نوبات البكاء والقلق لدى الأطفال بنسبة 30%، ما ينعكس مباشرة على راحة الأم.
ابدئي بإنشاء جدول يومي بسيط، واستخدمي الصور أو الأغاني مع الطفل لتثبيته، وسترَين النتائج خلال أسبوعين فقط.
غذّي جسدكِ لتدعمي طاقتكِ النفسية
الطاقة تبدأ من التغذية السليمة.

أظهرت دراسات علمية أن هناك ارتباطًا مباشرًا بين التغذية الغنية بالمغذيات الدقيقة (كالحديد والمغنيسيوم وأوميغا 3) وبين مستوى الطاقة والمزاج لدى الأمهات. فالنساء اللواتي يعانين من نقص هذه العناصر يشعرن بالتعب أكثر من غيرهن، حتى وإن نمن بشكلٍ كافٍ.
ركّزي على تناول أطعمة مثل: البيض، والسبانخ، والمكسرات النيئة، والأسماك الدهنية، والفواكه الطازجة. ولا تنسي شرب الماء بكميات كافية، لأن الجفاف البسيط قد يسبب شعورًا كبيرًا بالإرهاق الذهني.
الخلاصة
تربية الأطفال مرهقة؟ نعم، وهذا الاعتراف ليس ضعفًا بل شجاعة. فكل أم تُعطي من وقتها، وطاقتها، وحبّها تستحقّ أن تهتم بنفسها بقدر ما تهتم بأطفالها. التعب جزء من الرحلة، لكنه ليس كلّها. عندما تتّبعين خطوات مدروسة مبنية على حقائق علمية، وتعيدين ترتيب أولوياتكِ، ستلاحظين تحوّلًا حقيقيًا في طاقتك وصحتك النفسية. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ كيف تعتنين بنفسك كأمّ وسط المسؤوليات اليومية؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن تربية الأطفال لا تُقاس فقط بدرجة الانضباط أو الإنجازات، بل بجودة العلاقة التي تبنينها معهم ومع نفسك أيضًا. الإرهاق أمر طبيعي، لكنه لا يجب أن يتحوّل إلى أسلوب حياة. خذي وقتك، لا تجعلي اللوم يثقل قلبك، وثقي أن كل لحظة تعب تمرّ، تترك أثرًا من الحب في قلوب أطفالك. لكن الأهم من كل شيء، هو أن تبقي أنتِ قوية، متوازنة، ومُحاطة بالدعم الذي تستحقينه.