يُعتبر الزواج بنية الطلاق من أكثر المواضيع حساسية في المجتمع الحديث. في ظاهره يبدو زواجًا شرعيًا مكتمل الأركان، لكنه يحمل في داخله نية خفية تنقض جوهر الاستمرارية. يقوم بعض الرجال، خصوصًا في البلدان التي يسافرون إليها مؤقتًا، بعقد زواج شرعي مع نية الطلاق بعد انتهاء المدة أو الغرض. هذا الفعل يثير تساؤلات كثيرة: هل هو حلال أم حرام؟ وهل تتحقق فيه مقاصد الزواج؟ أم أنّه تحايل على الشرع؟
سنعرض في هذا المقال، بشكل مفصّل وواضح، الرأي الشرعي حول الزواج بنية الطلاق، وتأثيره النفسي والاجتماعي. ثمّ سنناقش أبعاده الأخلاقية والعلمية من منظور دراسات اجتماعية حديثة. مع العلم أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن الأفعال المحرمة في العلاقة الزوجية.
التعريف الشرعي للزواج بنية الطلاق
في البداية، يجب توضيح المفهوم الشرعي بدقّة. الزواج بنية الطلاق هو أن يعقد الرجل الزواج على امرأة وهو يضمر في نفسه أنه سيطلّقها بعد مدة محددة، من دون أن يخبرها أو يشترط ذلك في العقد. الفقهاء القدامى فرّقوا بين حالين: الأولى، أن يُذكر الطلاق صراحة في العقد، وهذه تُسمّى “الزواج المؤقّت” أو “نكاح المتعة”، وهي محرّمة بإجماع العلماء. أمّا الثانية، وهي إخفاء النية من دون التصريح بها، فهي موضع خلاف.

- يرى جمهور العلماء، ومنهم ابن باز وابن عثيمين، أنّ الزواج بنية الطلاق محرّم لأنّه خداع وغشّ.
- بينما رأى بعض فقهاء المذهب الحنبلي أنّ العقد صحيح ما دامت الشروط الظاهرة مستوفاة. لكنّ صاحبه آثم بنيّته الخفية.
من الناحية الفقهية، الزواج بنية الطلاق يُنافي مقصود الزواج في الإسلام، الذي هو المودّة، والسكينة، والاستقرار. قال تعالى: “وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا” (الروم: 21). النية المسبقة بالانفصال تُسقط هذا المقصد وتحوّل الزواج إلى معاملة مؤقتة لا تحقق الغاية السامية من الميثاق الغليظ.
البعد النفسي والاجتماعي للزواج بنية الطلاق
من الناحية النفسية، تشير دراسات علم الاجتماع الأسري إلى أنّ العلاقات التي تُبنى على نية خفية، تُسبّب اضطرابًا عاطفيًا للطرف الآخر عند اكتشاف الحقيقة. المرأة، في هذه الحال، تُخدَع عاطفيًا، وتعيش علاقة غير صادقة من الأساس.
- كمات أنّ الزواج القائم على نية مؤقتة يترك آثارًا نفسية مشابهة لآثار الخيانة الزوجية، من حيث فقدان الثقة بالنفس واضطراب الهوية العاطفية.
- كما أنّ النساء اللواتي يكتشفنَ أنّ زواجهن كان مؤقتًا يعانين من مستويات مرتفعة من القلق والاكتئاب.
اجتماعيًا، الزواج بنية الطلاق يهدّد صورة الزواج كمؤسسة مقدّسة. فعندما يُصبح الزواج وسيلة مؤقتة لإشباع رغبة أو تحقيق مصلحة، يفقد المجتمع ثقته بالنية الشرعية للزواج. والنتيجة تكون تفككًا اجتماعيًا، وتشويهًا لسمعة النساء، وتزايد نسب الطلاق. خاصّةً في المدن الجامعية أو السياحية التي تُمارس فيها هذه الظاهرة بشكل غير معلن.
الرأي الفقهي والعلمي الحديث
من زاوية فقهية معاصرة، أصدرت المجامع الفقهية الإسلامية بيانات واضحة في هذا الشأن. أكد مجمع الفقه الإسلامي الدولي عام 2018 أنّ الزواج بنية الطلاق وإن كان عقده صحيحًا من حيث الشكل. إلا أنّه يخالف مقاصد الشريعة في الدوام والاستقرار، لذلك يُعدّ حرامًا من حيث النية والمقصد.

- وبيّن الشيخ يوسف القرضاوي أنّه “تحايل على الشرع يشبه المتعة، إذ لا يختلف عنها إلا في الصيغة الظاهرة”.
- بينما أوضح الشيخ ابن عثيمين أنّ هذا الزواج “صحيح في الظاهر، باطل في الباطن”، لأن النية تفرغ العقد من معناه الإنساني.
أما من الناحية العلمية، فيربط علماء النفس بين النية المسبقة للطلاق وغياب الالتزام العاطفي. إنّ “النية الواعية بإنهاء العلاقة لاحقًا تمنع الدماغ من بناء الروابط الهرمونية الداعمة للاستقرار، مثل الأوكسيتوسين”. وهذا يعني علميًا أنّ نية الانفصال تضعف الحبّ والتعلّق من بدايته، حتى لو لم يُصرَّح بها.
الأبعاد الأخلاقية والإنسانية
الأخلاق هي جوهر كل علاقة إنسانية، والزواج لا يُستثنى من ذلك. الزواج بنية الطلاق يناقض مبدأ الأمانة الذي أكّد عليه الإسلام. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: “إنّ أَحَبَّ الحديث إلى الله أصدقه”.
- هذا النوع من الزواج يفتقد الصدق، ويُنشئ علاقة مبنية على إخفاء الحقيقة.
- كما أنّه يُسيء لصورة الرجل المسلم في المجتمعات الأخرى، ويُثير الشكوك حول نياته.
من جهة أخرى، الطفل الذي قد يُولد من هذا الزواج يدفع ثمن قرارٍ لم يكن طرفًا فيه. الطفل قد يعيش مع أمّ مكسورة نفسيًا أو في بيئة مضطربة. فهل يرضى المسلم أن يبدأ حياة طفل على أساسٍ من الغشّ؟
الزواج في الإسلام ليس مجرّد عقد، بل ميثاق غليظ ومسؤولية أمام الله والمجتمع. وعندما يُفرّغ الرجل الزواج من محتواه الأخلاقي، يصبح أقرب إلى المتعة المرفوضة منه إلى الزواج الشرعي الحقيقي.
الحلول البديلة والتوصيات الشرعية
بدل اللجوء إلى الزواج بنية الطلاق، يمكن التفكير في بدائل شرعية أكثر أمانًا واستقامة.

- الخطبة الواضحة: يمكن أن يتقدّم الرجل بخطبة دون عقد حتى يقرّر مدى جدّيته في الزواج.
- الزواج بشفافية: إذا كانت المدة محدودة، يمكن الاتفاق الصريح مع وليّ المرأة، لكن بشرط ألا يكون العقد مؤقتًا، بل بنية الدوام ما لم يحدث مانع.
- غضّ البصر والصبر: الإسلام أمر بالعفة، والصبر عن الزواج المؤقت أفضل من الدخول في علاقة مشبوهة شرعًا.
- التوعية الأسرية: يجب أن تقوم المؤسسات الدينية والإعلامية بدور في توعية الشباب بخطورة هذا النوع من الزواج، من الناحية الشرعية والعاطفية.
- تحصين القيم: التربية على الصدق والأمانة منذ الصغر تُجنّب الفرد الوقوع في مثل هذه الممارسات المتناقضة مع روح الإسلام.
الخلاصة
إنّ الزواج بنية الطلاق قضية معقّدة تجمع بين الظاهر الشرعي والباطن الأخلاقي. ورغم أنّ بعض الفقهاء أجازوا صحّة العقد، إلا أنّ روح الإسلام ترفض الغشّ والخداع في كلّ معاملة. خصوصًا في ميثاق يُبنى عليه مستقبل إنساني وعائلي. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن الأفعال المحرمة في العلاقة الزوجية.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أنّ الزواج بنية الطلاق هو شكل من أشكال التحايل على المقاصد الشرعية. فالحلال لا يكون حلالًا إذا خالطه الغشّ، والمباح لا يبقى مباحًا إذا أُسيء استخدامه. الزواج الحقيقي هو الذي يُبنى على النية الصادقة، لا على التوقيت المسبق. ومن الأفضل للشابّ المسلم أن يتّقي الله في قراراته العاطفية، لأنّ ما يُبنى على الصدق يدوم، وما يُبنى على الخداع ينهار، عاجلًا أم آجلًا.
