التشتّت العاطفي هو حال نفسية دقيقة يعيشها بعض الأشخاص، حيث يكون الجسد حاضرًا في الموقف أو العلاقة، لكن العقل والمشاعر في مكان آخر. قد تمرّ هذه الظاهرة مرور الكرام في الحياة اليومية، لكنّها في الواقع تؤثر بعمق على جودة العلاقات والصحة النفسية. تظهر هذه الحال غالبًا عند وجود ضغوط متراكمة أو صدمات سابقة، فتجعل الشخص حاضرًا شكليًا لكنه بعيد ذهنيًا ووجدانيًا.
في هذا المقال، سنناقش جذور هذه الظاهرة وأسبابها، ثم نتطرّق إلى آثارها على الصحة النفسية والعلاقات الاجتماعية. إضافةً إلى طرق التعامل معها من منظور علم النفس الحديث. سنعرض لكِ أحدث الدراسات التي تناولت التشتّت العاطفي وأثره على الدماغ. كما سنقدّم خطوات عملية لمساعدة الشخص على استعادة الحضور الذهني والعاطفي.
ما هو التشتّت العاطفي من منظور علم النفس؟
لفهم الظاهرة بدقة، لا بد من تعريفها وفق الأدبيات العلمية. يشير علم النفس إلى أن التشتّت العاطفي هي حال من الانفصال بين المشاعر والتفاعل اللحظي. حيث لا يشارك الفرد بكامل وعيه وانتباهه في اللحظة الراهنة.

أظهرت دراسة منشورة في Journal of Affective Disorders أن هذا الانفصال قد يكون استجابة دفاعية من الدماغ لتقليل تأثير المواقف المؤلمة أو الضاغطة. بمعنى آخر، هو آلية حماية نفسية مؤقتة، لكنها إذا استمرت تتحول إلى نمط سلوكي يؤثر سلبًا على العلاقات وعلى الصحة العاطفية.
الأسباب الخفية وراء التشتّت العاطفي
قد تكون الأسباب معقدة ومتداخلة. من أبرزها:
- الضغط النفسي المزمن: تراكم المهام والمسؤوليات يرهق الجهاز العصبي، فيجعل الدماغ ينسحب من الحضور العاطفي.
- التجارب الصادمة: قد تترك الصدمات العاطفية أو الجسدية أثرًا طويل الأمد. ممّا يدفع الشخص لا شعوريًا إلى الابتعاد عاطفيًا عن المواقف.
- اضطرابات القلق والاكتئاب: تضعف هذه الاضطرابات القدرة على التركيز العاطفي. فتجعل الشخص يعيش في حالة من الشرود الذهني.
- الإرهاق الجسدي: نقص النوم وسوء التغذية يقللان من كفاءة الدماغ على الربط بين الجسد والمشاعر.
تؤكد أبحاث في American Psychological Association أن الدماغ في حالات الضغط الشديد يفعّل مناطق تتعلق بالبقاء، ويعطّل مؤقتًا المراكز المرتبطة بالتفاعل العاطفي.
آثار التشتّت العاطفي على العلاقات والصحة النفسية
التشتّت العاطفي لا يمرّ من دون آثار ملموسة. على الصعيد العاطفي، يشعر الطرف الآخر في العلاقة بأن التواصل ضعيف أو بارد. هذا الشعور قد يولّد فجوة عاطفية تزيد من التباعد بين الشريكين أو الأصدقاء.

أما على الصعيد النفسي، فالدراسات تشير إلى أن التشتّت العاطفي المستمر يرفع احتمالية الإصابة بالقلق والاكتئاب، ويضعف القدرة على إدارة الضغوط. كما يعيق تكوين ذكريات إيجابية مشتركة، لأن الدماغ أثناء التشتّت لا يسجّل الأحداث بكامل تفاصيلها.
وفي بيئة العمل، قد ينعكس الأمر على الأداء المهني. إذ يصبح الشخص حاضرًا جسديًا في الاجتماعات أو المهام، لكنه غير متفاعل. ما يقلّل من الإنتاجية ويؤثّر على التعاون مع الزملاء.
كيف يمكن التعامل مع التشتّت العاطفي؟
يتطلب التعامل مع هذه الظاهرة وعيًا بها أولًا، ثم تطبيق استراتيجيات عملية.
- الوعي باللحظة: تمارين اليقظة الذهنية (Mindfulness) تساعد على إعادة الانتباه للحاضر عبر التركيز على الحواس والتنفس.
- التعبير عن المشاعر: التحدث مع شخص موثوق أو مختص نفسي يساعد على تفريغ الضغوط وتحرير المشاعر المكبوتة.
- تنظيم نمط الحياة: النوم الجيد، والحصول على التغذية السليمة، وممارسة النشاط البدني المنتظم تعزّز من نشاط الدماغ وتحسن الحضور العاطفي.
- العلاج النفسي المتخصص: في الحالات المزمنة، قد يكون العلاج المعرفي السلوكي (CBT) أو العلاج بالصدمة (EMDR) فعالًا في معالجة جذور المشكلة.
تشير دراسة في Frontiers in Psychology إلى أن ممارسة التأمل لمدة 10 دقائق يوميًا لمدة شهر واحد تحسّن مؤشرات الحضور الذهني والعاطفي بنسبة ملحوظة.
دور الدعم الاجتماعي في الحد من التشتّت العاطفي
لا يمكن إغفال دور البيئة المحيطة في دعم الشخص. العائلة والأصدقاء يمكن أن يكونوا عنصرًا أساسيًا في إعادة الشخص إلى الحاضر. الدعم العاطفي يمنح الإحساس بالأمان، ويعيد الثقة في التفاعل الاجتماعي.

من المهم أيضًا أن يعبّر المحيط عن تفهّمه بدلًا من توجيه اللوم. فالشخص الذي يعاني من التشتّت العاطفي يحتاج إلى احتواء ومساندة أكثر من حاجته للنقد. توفير بيئة آمنة للتعبير عن المشاعر يختصر وقت التعافي ويعزز الروابط.
الخلاصة
التشتّت العاطفي ليس مجرد شرود ذهني عابر، بل حالة معقّدة تتأثر بها الصحة النفسية والعلاقات على حد سواء. فهم هذه الظاهرة والتعامل معها مبكرًا يحمي من تراكم آثارها السلبية. يكمن الحل في الجمع بين الوعي الذاتي والدعم الاجتماعي والتدخل العلاجي عند الحاجة. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وعرضنا لكِ عبارات تخفف التوتر وقت الخلاف تُنقذ علاقتكِ في لحظات الغضب.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن التشتّت العاطفي يجب أن يُؤخذ على محمل الجد، لا كتصرف عابر أو قلة اهتمام. فالإنسان، لكي يعيش حياة متوازنة، يحتاج أن يكون حاضرًا بجسده وقلبه وعقله معًا. الاستثمار في الصحة النفسية والوعي الذاتي هو استثمار في جودة الحياة والعلاقات، وهو ما يستحق منا كل الجهد والاهتمام.