كيف تكوني داعمة بدون ما تنسي نفسك؟ سؤال قد يبدو بسيطًا، لكنّه يحمل أبعادًا عاطفية ونفسية عميقة. نحن نعيش في عالم يدعو باستمرار إلى العطاء والمساندة، سواء للأسرة أو الأصدقاء أو حتى زملاء العمل. ومع ذلك، كثير من النساء يجدن أنفسهن يقدمن بلا حدود، حتى يفقدن طاقتهن النفسية والجسدية. هذا النوع من العطاء غير المتوازن قد يؤدّي مع الوقت إلى الشعور بالإرهاق العاطفي وفقدان الشعور بالرضا الداخلي.
في هذا المقال، سنتناول موضوع الدعم المتوازن من منظور علم النفس والصحة العقلية. سنعرض لكِ كيف يمكنكِ مساعدة من حولكِ بكل حب، مع الحفاظ على حدودكِ وطاقتكِ. سنتحدث عن أهمية الوعي الذاتي، ووضع الحدود الصحية، والاهتمام بالنفس كشرط أساسي للاستمرار في العطاء. ستجدين نصائح عملية مدعومة بمعلومات علمية لتطبيقها في حياتكِ اليومية بسهولة.
فهم معنى العطاء المتوازن
قبل أن نبدأ في وضع الخطوات، علينا فهم معنى العطاء المتوازن. العطاء الصحي لا يعني تقديم كل ما تملكين حتى تستنزفي نفسكِ. بل يعني مشاركة طاقتكِ ووقتكِ بطريقة لا تضر بصحتكِ النفسية أو الجسدية.

تشير دراسات علم النفس الإيجابي إلى أن الأشخاص الذين يضعون حدودًا واضحة لعطائهم يتمتعون بمستويات أعلى من الرضا والسعادة. على العكس، الذين يقدمون بلا وعي أو توازن، يعانون من ضغوط يوميّة مستمرة وشعور دائم بالاستنزاف. إذًا، الخطوة الأولى هي إدراك أنّ حبكِ للآخرين لا يجب أن يكون على حساب نفسكِ.
أهمية الوعي الذاتي
حتّى تجيبي بصدق على سؤال “كيف تكوني داعمة بدون ما تنسي نفسك؟”، يجب أن تبدئي بالوعي الذاتي. الوعي بمشاعركِ وحدودكِ يمكّنكِ من معرفة اللحظة التي تحتاجين فيها إلى التوقف أو الراحة.
تؤكّد البحوث المنشورة في Journal of Counseling Psychology أن ممارسة التأمل الذهني (Mindfulness) تساعد الأفراد على مراقبة طاقاتهم العاطفية والجسدية. جربي أن تسألي نفسكِ يوميًا: “هل أملك الطاقة الكافية لأقدّم المساعدة اليوم؟”. إذا كانت الإجابة لا، فخذي استراحة بدلًا من الضغط على نفسكِ.
يمنحكِ الوعي الذاتي القدرة على التمييز بين الدعم النابع من حب ورضا، والدعم الذي يأتي من شعور بالواجب أو الخوف من الرفض.
وضع الحدود الصحية
من أهم أسرار العطاء الصحي هو وضع حدود واضحة. الحدود لا تعني الأنانية، بل هي وسيلة لحماية نفسكِ من الإرهاق.

يشير علم النفس الاجتماعي إلى أن وضع الحدود يزيد من جودة العلاقات بدلًا من إضعافها. فعندما يعرف الآخرون ما يمكنكِ تقديمه وما لا يمكنكِ تقديمه، يصبح تواصلكم أكثر وضوحًا واحترامًا.
ابدئي باستخدام عبارات بسيطة مثل: “أرغب بمساعدتكِ، لكن لا أستطيع الآن”، أو “أحتاج إلى وقت لنفسي قبل أن أشارك”. هذه الجمل تحافظ على نبرة ودية، وتوضح حدودكِ في الوقت نفسه.
العناية بالنفس كجزء من العطاء
لتحافظي على قدرتكِ في العطاء، يجب أن تضعي العناية بالنفس في قائمة أولوياتكِ. تثبت الأبحاث في مجال الصحة العقلية أن الأشخاص الذين يخصّصون وقتًا لأنشطة مريحة، مثل الرياضة أو القراءة أو التأمل، يصبحون أكثر قدرة على دعم من حولهم.
لا تنتظري حتى تصلي إلى مرحلة الإرهاق كي تتذكري نفسكِ. خصّصي أوقاتًا ثابتة خلال الأسبوع لممارسة أنشطة تمنحكِ السعادة. تذكري أن العطاء يبدأ من الامتلاء الداخلي، وإذا كانت طاقتكِ منخفضة فلن تتمكني من الاستمرار في المساندة.
الحيلة التي تغيّر نظرتكِ للعطاء
هنا نصل إلى جوهر الموضوع: الحيلة التي ستغيّر رؤيتكِ للعطاء هي “المعادلة العاطفية الإيجابية”. هذه المعادلة تعني أن لكل فعل مساندة تقومين به، يجب أن يقابله فعل صغير ينعش طاقتكِ.

على سبيل المثال، إذا قضيتِ وقتًا طويلًا في مساعدة أحدهم على حلّ مشكلة، خصّصي بعدها ساعة لممارسة هوايتكِ أو للجلوس بهدوء مع فنجان من القهوة. هذا التوازن يمنع شعوركِ بالإرهاق ويجعلكِ أكثر حماسًا للاستمرار في الدعم.
تشير الدراسات في American Journal of Lifestyle Medicine إلى أن هذا النوع من الموازنة يزيد من مستويات الهرمونات المرتبطة بالسعادة مثل السيروتونين، ويقلل من هرمونات التوتر مثل الكورتيزول.
الخلاصة
في النهاية، الإجابة على سؤال “كيف تكوني داعمة بدون ما تنسي نفسك؟” تكمن في إدراككِ لأهمية التوازن بين العطاء والاهتمام بالنفس. لا يعني الدعم الحقيقي التضحية الكاملة، بل تقديم ما تستطيعين بوعي، مع الحفاظ على طاقتكِ وسعادتكِ.
اتباعكِ لمبدأ الوعي الذاتي، ووضع الحدود، والعناية بالنفس، وتطبيق المعادلة العاطفية الإيجابية سيجعل عطاءكِ أكثر استدامة وأثره أعمق. تذكري دائمًا أن سعادتكِ ليست رفاهية، بل شرط أساسي لتكوني سندًا قويًا لمن حولكِ وبالذات لزوجكِ وأطفالكِ وعائلتكِ. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وعرضنا لكِ خطوات بسيطة تعيد الانسجام إلى أجواء الحياة العائلية.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن المرأة القادرة على الموازنة بين احتياجاتها واحتياجات الآخرين تملك قوة داخلية مميزة. العطاء بلا وعي قد يبدو في البداية تضحية نبيلة، لكنه مع الوقت يترك فراغًا داخليًا. لذلك، أنصحكِ أن تجعلي العناية بنفسكِ جزءًا لا يتجزأ من رحلتكِ في دعم الآخرين، فبهذه الطريقة فقط يصبح عطاؤكِ صادقًا، نقيًا، ودائم الأثر.