يُثير الصمت بين الزوجين تساؤلات كثيرة في عالم العلاقات الزوجية. ففي بعض الأحيان يُنظر إليه كإشارة لفتور عاطفي، وفي أحيان أخرى يُعتبر علامة نضج وانسجام داخلي. هذا السلوك يرافق معظم الأزواج بعد سنوات من الزواج، وقد ينعكس إمّا سلبًا أو إيجابًا بحسب طريقة التعامل معه. بعض الدراسات الحديثة في علم النفس الأسري تشير إلى أنّ الصمت قد يكون وسيلة لتخفيف النزاعات الزوجيّة. بينما ترى أبحاث أخرى أنّه قد يفتح الباب للشعور بالوحدة والعزلة داخل العلاقة.
في هذا المقال سوف نتطرّق إلى مفهوم الصمت بين الزوجين من منظور علمي ونفسي. سنناقش كيف يمكن أن يتحوّل إلى سبب للتباعد، أو بالعكس، إلى وسيلة لتعزيز الراحة والاستقرار. سنعرض أيضًا أبرز نتائجه على الصحة النفسية والعاطفية، وأهم النصائح التي تساعد في تحويله إلى نقطة قوّة بدلًا من كونه تهديدًا للعلاقة.
الصمت كآلية دفاع نفسي
في البداية لا بدّ من فهم أنّ الصمت بين الزوجين قد يظهر كردّ فعل نفسي طبيعي. تؤكّد كثير من الأبحاث في علم النفس الاجتماعي أنّ بعض الأشخاص يلجؤون إلى الصمت لحماية أنفسهم من الانفعال الزائد أو لتجنّب نزاع قد يتفاقم. بيّنت دراسة منشورة في مجلة Journal of Marriage and Family أنّ الأزواج الذين يستخدمون الصمت كفاصل مؤقّت قبل النقاش يتمكّنون من السيطرة على الشعور بالقلق والتوتر بشكل أفضل.
هذا الصمت ليس بالضرورة علامة ضعف، بل يمكن أن يكون وسيلة لضبط المشاعر وإعادة التفكير بالموضوع. لكن، إذا استمرّ لفترات طويلة من دون حوار لاحق، قد يتحوّل إلى جدار يفصل الشريكين ويعمّق المسافة بينهما.
الصمت بين الراحة والتجاهل
قد يحمل الصمت بين الزوجين معنيين متناقضين. من جهة، قد يوفّر راحة وهدوءًا نفسيًا، إذ لا يحتاج الزوجان دائمًا إلى الكلمات لإثبات الحب. التواجد المشترك في صمت أحيانًا يعكس انسجامًا داخليًا وثقة متبادلة. من جهة أخرى، قد يُفسَّر الصمت كتجاهل أو كبرود عاطفي. خصوصًا إذا لم يكن مصحوبًا بأي إشارات ودّ أو اهتمام.
تبيّن البحوث في مجال التواصل غير اللفظي أنّ الإيماءات، والنظرات، والابتسامات البسيطة تؤدّي دورًا حاسمًا في تحديد معنى الصمت. فإذا كان مصحوبًا بلغة جسد إيجابية، فهو يُشعر الطرف الآخر بالأمان. أمّا إذا ترافق مع برود في التعامل، فقد يزيد من احتمالات سوء الفهم والابتعاد والبرود العاطفي.
تأثير الصمت على الصحة النفسية والعاطفية
تقوم العلاقة الزوجية على التواصل العاطفي. عندما يطول الصمت بين الزوجين من دون محاولات لإعادة بناء الحوار، تزداد احتمالية شعور أحد الطرفين بالوحدة. أظهرت أبحاث في علم النفس الإكلينيكي أنّ غياب التواصل اللفظي قد يرتبط بارتفاع معدّل القلق والاكتئاب لدى الأزواج، خصوصًا إذا تزامن مع نزاعات غير محلولة.
لكن في المقابل، أظهرت دراسة أخرى أنّ الأزواج الذين يختارون الصمت المؤقّت بدلًا من الجدال المستمر يملكون قدرة أفضل على تجاوز الضغوط. هذا يوضح أنّ الأثر النفسي للصمت يعتمد على المدة والسياق. لذلك، الفاصل القصير قد يكون صحيًا، بينما الاستمرار المفرط فيه قد يؤدّي إلى عواقب سلبية.
الصمت كمساحة للنضج والتأمّل
من منظور آخر، قد يعكس الصمت بين الزوجين نضجًا في العلاقة. فبعد سنوات من الحياة المشتركة، يكتسب الشريكان خبرة أكبر في قراءة مشاعر بعضهما البعض. عندها، يصبح الصمت أداة للتأمّل أو للتعبير غير المباشر عن الرضا.
يصف علماء النفس هذا النوع من الصمت بـ “الصمت التوافقي”، حيث يشعر كلا الطرفين أنّ وجود الآخر كافٍ ولا حاجة ملحّة للكلام. هذا النمط من التواصل يشبه لغة خاصة لا يفهمها إلّا الشريكان، وقد يشكّل سرًّا للسعادة الزوجية عند بعض الأزواج. ومع ذلك، يحتاج هذا الصمت إلى توازن، إذ يجب ألّا يلغي الحاجة للحوار الواضح حول المواضيع المهمّة كالتربية أو القرارات المصيرية.
كيف نحافظ على توازن صحي في الصمت؟
لتحويل الصمت بين الزوجين إلى عنصر إيجابي، لا بدّ من وجود وعي مشترك. أهمّ خطوة هي التفريق بين الصمت كراحة وبين الصمت كعزلة. هنا تؤدّي المصارحة دورًا محوريًا: أن يوضح أحد الطرفين أنّه يحتاج لفترة هدوء قبل النقاش، فهذا يمنع سوء الفهم.
إضافةً إلى ذلك، ينصح خبراء العلاقات بدمج الصمت مع مؤشّرات ودّ بسيطة مثل لمسة يد أو نظرة مطمئنة. هذه التفاصيل الصغيرة تمنح الطمأنينة وتحوّل الصمت من فراغ إلى لحظة قرب. كما أنّ الاتفاق بين الزوجين على أوقات محدّدة للحوار يضمن ألّا يتحوّل الصمت إلى عادة دائمة تهدّد العلاقة.
الخلاصة
من الواضح أنّ الصمت بين الزوجين ليس مجرّد حال واحدة، بل ظاهرة متعددة الأوجه. قد يكون أداة لحماية العلاقة من الانفعالات، أو قد يتحوّل إلى خطر إذا طال من دون تفسير. يبيّن العلم أنّ تأثيره يعتمد على السياق، والمدة، وطريقة التوظيف. وعليه، الصمت قد يحمل سرّ السعادة الزوجية حين يُستخدم بوعي وتوازن، لكنّه قد يكون علامة برود إذا غاب عنه أي نوع من التواصل العاطفي. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وعرضنا لكِ طرق فعّالة لعلاج الجفاف العاطفي عند المرأة قبل أن يتفاقم.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أنّ الصمت بين الزوجين يجب ألّا يُفهم دائمًا كتهديد. بل هو فرصة لاختبار عمق العلاقة بعيدًا عن ضوضاء الكلمات. المهم أن يبقى هناك جسور أخرى من الاهتمام، وأن يترافق الصمت مع لمسات صادقة ونوايا واضحة. هكذا فقط يتحوّل الصمت إلى لغة حبّ خفيّة تحفظ الدفء وتبني سعادة تدوم.
