يُعتبَر دور الأم المحرّك الخفي في كل بيت دافئ. في كل زاوية من زوايا المنزل، وفي كل تفصيلة صغيرة تبدو عادية، تقف الأم كقلب نابض يمنح الحياة، وكعمود أساس يحمي التوازن النفسي والعاطفي ويحقٌق الراحة النفسيّة لأطفالها. ومع ذلك، لا تزال حقيقة هذا الدور غائبة عن كثير من التحليلات العلمية والمجتمعية. إذ يتم اختزاله غالبًا في العطاء التقليدي من دون التطرق لعمقه البنيوي في صناعة الإنسان والمجتمع.
أولًا، نُسلّط الضوء في هذا المقال على ما لا يُقال عادة عن دور الأم من خلال عدسة العلم والتجربة. بعد ذلك، نناقش محاوره المتنوعة بترتيب واضح، بدءًا من الأثر النفسي والوجداني، ثم ننتقل إلى دور التربية الإدراكية، ومن ثم نُبيّن مساهمة الأم في بناء الاستقرار الأسري والاجتماعي. وأخيرًا، ندعم هذه المحاور بمعلومات مستندين إلى دراسات موثوقة وأمثلة واقعية ومُعاشة.
دور الأم في تكوين الصحة النفسية للأطفال
من المهم أن نبدأ بفهم كيف يُؤسّس دور الأم للأساس النفسي المتين لدى الطفل. تشير دراسة منشورة في مجلة Developmental Psychology إلى أنّ علاقة الطفل بأمه في السنوات الخمس الأولى تؤثر بشكل مباشر على قدرته على التعامل مع التوتر، وعلى مستوى ثقته بذاته لاحقًا.

لذلك، تمنح الأم طفلها الحب غير المشروط، ثم تستجيب لبكائه بلطف، وبعد ذلك تُظهر له حضورًا عاطفيًا فعّالًا. وبهذا الشكل، تبرمج الجهاز العصبي للطفل ليستجيب للعالم بثقة، لا بخوف. في الواقع، ترافق هذه الاستجابات الطفل طوال حياته، ولا تزول بسهولة.
أيضًا، لاحظ الباحثون في جامعة هارفارد أنّ الأطفال الذين نشأوا في بيئات تتّسم بالدعم العاطفي من الأم، يتمتعون بقدرة أكبر على حل المشاكل والتفاعل الاجتماعي. من هنا، نرى أنّ الأم لا تقدم فقط الراحة، بل تبني عقلًا متزنًا ونفسًا مطمئنة.
دور الأم في تنمية القدرات الإدراكية والسلوكية
كذلك، يُعَدّ دور الأم مركزيًا في تحفيز القدرات الذهنية والتعليمية. منذ اللحظة الأولى التي تتحدث فيها الأم مع طفلها، تبدأ الخلايا العصبية بالنمو والاتصال. تؤكّد دراسات علم الأعصاب أن الحديث المتكرر، والقراءة بصوت عالٍ، والألعاب التفاعلية البسيطة، تسرّع من تطور الدماغ عند الأطفال، وتُحسّن مهارات اللغة والذاكرة.
حسب تقرير من منظمة UNICEF، تلعب الأم دورًا محوريًا في تشجيع الطفل على الاستكشاف والاستقلال. من خلال بيئة آمنة تشجع التجربة والخطأ، تبني الأم طفلًا واثقًا بقراراته، قادرًا على التفكير النقدي.
وهنا، لا يكفي فقط توفير الأدوات التعليمية. بل الأهم هو التفاعل المستمر، والتشجيع، وملاحظة إشارات النمو الذهني، وتقديم الدعم المناسب في كل مرحلة.
دور الأم في تحقيق الاستقرار العاطفي داخل الأسرة
علاوةً على ذلك، تبرز الأم كعنصر توازن في العلاقات داخل الأسرة. أظهرت دراسة في Journal of Family Psychology أن الأم تمثّل عادة نقطة الوصل بين الأطراف. كما تتحكّم بمستوى التوتر العام في المنزل من خلال سلوكها وردود أفعالها.

حين تتحلّى الأم بالمرونة النفسية، وتُظهر تقبّلًا لاحتياجات أفراد أسرتها دون إهمال ذاتها، تسود بيئة مستقرة يسهل فيها التواصل وحلّ النزاعات.
أيضًا، لاحظ علماء النفس أن الأم القادرة على التعبير عن مشاعرها بوضوح، وتشجيع أفراد الأسرة على فعل ذلك، تُقلل من معدلات الاكتئاب الأسري، وتعزّز من مشاعر الانتماء والأمان. ما يعني أنّها تؤمّن العيش وسط حياة عائلية مرحة وسعيدة.
دور الأم في نقل القيم وبناء الهوية
بكل وضوح، تؤدّي الأم دورًا أساسيًا في نقل القيم الأخلاقية والاجتماعية. أولًا، من خلال الأفعال اليومية، تزرع في الطفل صورة واضحة عن الصواب والخطأ. ثم، عبر القصص التي ترويها، تعلّمه مفاهيم مثل الشجاعة والاحترام. وأخيرًا، من خلال طريقة تعاملها مع الآخرين، تُشكّل نظامًا مرجعيًا ثابتًا لدى الطفل، يعتمد عليه لاحقًا في بناء شخصيته وتحديد مواقفه.
يُشير تقرير من American Academy of Pediatrics إلى أنّ الأطفال يكتسبون القيم الأساسية من الأم قبل سنّ السابعة. هذه القيم، مثل الصدق، والاحترام، والمساعدة، تُغرس في اللاوعي من خلال النمذجة السلوكية. وليس من خلال التعليم المباشر.
كل تصرف تقوم به الأم أمام أطفالها، من طريقة تعاملها مع عامل النظافة، أو ردّها على مواقف الغضب، يُشكّل أساس في بناء شخصية الابن أو الابنة.
التحديات الخفية التي تواجهها الأمهات
مع كل هذه الأدوار المعقدة، تواجه الأمهات تحديات كبيرة لا تُقال غالبًا. الإجهاد الذهني، وضغط التوقعات، والحرمان من الراحة، تؤثر جميعها على جودة العطاء. في دراسة من جامعة كاليفورنيا، تبيّن أن 70% من الأمهات يشعرن بالإرهاق العاطفي بسبب تعدد الأدوار وعدم الاعتراف الكافي بها.

لهذا السبب، يجب أن نُقدّر دور الأم بشكل حقيقي. بعد ذلك، لا بد أن نقدّم لها الدعم النفسي والمجتمعي الكافي. على سبيل المثال، يمكننا أن نعتمد سياسات عمل مرنة تساعدها على التوازن. أيضًا، يجب أن نبني شبكات دعم محلية تعزز شعورها بالأمان. إضافةً إلى ذلك، من المهم أن يشجّع الأزواج أنفسهم على المشاركة العادلة في مهام التربية اليومية. بهذه الطرق البسيطة، نحمي الأم من الإرهاق ونمكّنها من الاستمرار بقوة.
الخلاصة
في النهاية، يمكن القول إن دور الأم لا يقتصر أبدًا على واجب بيولوجي أو تقليدي. بل على العكس، يشمل هذا الدور عملية تربوية متكاملة، وعملًا نفسيًا واجتماعيًا مستمرًا. ومن خلال هذا الدور، تبني الأم شخصيات قوية، وتؤسس أسرة متوازنة، وتدعم مجتمعات سليمة. لذلك، من الضروري جدًا أن نُدرك أهمية هذا الدور، وأن نُعطيه ما يستحق من تقدير. ولهذا السبب، لا يكفي أن نكرّسه لمجرد مناسبة تُحتفل بها ليوم واحد في السنة، بل يجب أن نُكرّسه في وعينا وسلوكنا بشكل دائم. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وأخبرناكِ عن دور الأم في تأسيس شخصية أبنائها.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أنّ التقدير اللفظي وحده لا يكفي. لذلك، يجب أن نحمي الأمهات من الاستنزاف الصامت بكل الوسائل الممكنة. بعد ذلك، علينا أن نُعيد توزيع الأدوار داخل الأسرة بشكل عادل وواضح. أيضًا، من المهم أن نمنح الأم مساحة كافية لتعيش كإنسانة كاملة، لا كمصدر دائم للعطاء فقط. في النهاية، عندما ندعم الأم بوعي، فإننا نبني مستقبلًا أقوى وأكثر توازنًا.