تُعَدّ المعاناة من الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية من أكثر العوارض شيوعًا التي ترافق المرأة في مرحلة سنّ اليأس. في هذه المرحلة الدقيقة من العمر، تمرّ المرأة بتغيّرات بيولوجية ونفسية عميقة تؤثّر في مزاجها، ونومها، وطريقة تعاملها مع محيطها. الهبّات تُفاجئ الجسد بحرارة مفاجئة تُربك الشعور بالراحة، بينما التقلّبات المزاجيّة والنفسية تُزعزع الاستقرار العاطفي وتُسبّب قلقًا مستمرًّا.
وفي هذا الدليل المفصّل، سنكشف العلاقة الوثيقة بين الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية، ونشرح الأسباب العلمية لهذه الحال. ثم نعرض تأثيرها على الجسم والعقل، وأخيرًا نضع أمامك استراتيجيات فعّالة، طبيعية وطبية، لتخطّي هذه المرحلة بسلام وطمأنينة. يهدف هذا المقال إلى منحك فهمًا أعمق لتغيّرات جسدك ونفسك، ليس فقط لتقبّلها، بل للتعامل معها بذكاء وراحة.
فهم الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية
في البداية، من المهمّ أن نفهم طبيعة هذه الظاهرة. إنّ المعاناة من الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية ليست مرضًا، بل استجابة طبيعيّة لجسم المرأة عندما يبدأ مستوى الهرمونات، وخصوصًا الإستروجين، بالانخفاض في فترة ما قبل انقطاع الطمث.

تُعتبَر الهبّات الساخنة إحساس مفاجئ بحرارة تنتشر في الوجه والعنق والصدر، وقد تترافق بتعرّق غزير أو خفقان سريع في القلب. تحدث لأن انخفاض الإستروجين يُربك مركز تنظيم الحرارة في الدماغ (hypothalamus). فيحاول الجسم تبريد نفسه بسرعة، فيتمدّد الجلد وتزداد حرارة الوجه.
أمّا التقلّبات النفسيّة، فهي تغيّرات متكرّرة في المزاج تشمل نوبات من التوتّر، والحزن، والشعور بالقلق، أو حتى الغضب غير المبرّر. تنشأ هذه الحال نتيجة التفاعل بين التغيرات الهرمونية والجهاز العصبي، إضافةً إلى اضطراب النوم الناتج عن الهبّات الليلية المتكرّرة.
الأسباب العلميّة وراء هذه التغيّرات
من الناحية العلميّة، يعود السبب الرئيسي وراء الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية إلى انخفاض الإستروجين والبروجسترون بعد الأربعين من العمر. يؤثّر هذا الانخفاض في الدماغ، وخصوصًا على النواقل العصبية مثل السيروتونين والدوبامين. وهما المسؤولان عن استقرار المزاج والشعور بالسعادة.
تشير الدراسات إلى أنّ أكثر من ٧٥٪ من النساء يعانين الهبّات الساخنة خلال سنّ اليأس، بينما تواجه نسبة تقارب ٦٠٪ تقلّبات مزاجية بدرجات متفاوتة. كما أظهرت أبحاث صادرة عن Mayo Clinic أنّ النساء اللواتي يُعانين اضطرابات النوم بسبب الهبّات الليلية يكنّ أكثر عرضة للمعاناة من الاكتئاب والقلق مقارنةً بغيرهنّ.
تؤثّر عوامل أخرى في شدّة العوارض، مثل التدخين، والسمنة، وقلة الحركة، والضغوط اليومية، وحتى الوراثة. ومع ذلك، فإنّ فهم الآلية الهرمونية يساعد المرأة على إدراك أنّ ما تمرّ به ليس ضعفًا نفسيًّا، بل نتيجة مباشرة لتبدّل طبيعي في نظام جسمها الداخلي.
تأثير الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية على حياة المرأة
لا تقتصر آثار الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية على الجانب الجسدي فحسب، بل تمتدّ إلى الحياة الاجتماعية والمهنية والعائلية. فالإحساس المفاجئ بالحرارة خلال الاجتماعات أو في أماكن عامّة قد يُسبّب إحراجًا وتوتّرًا. ومع تكرار هذه المواقف، تبدأ المرأة بفقدان ثقتها بنفسها أو تفضيل الانعزال.

من جهة أخرى، تؤدّي التقلّبات المزاجية إلى اضطراب العلاقات الزوجية والعائلية. فالحساسية الزائدة أو الغضب المفاجئ قد يُفسّران خطأً على أنّهما تغيّر في الشخصية. بينما هما في الحقيقة انعكاس لاضطراب كيميائي مؤقّت في الدماغ.
كما أنّ قلّة النوم الناجمة عن الهبّات الليلية تُضعف التركيز وتزيد التوتّر. وقد لاحظ باحثو National Institutes of Health أنّ النساء اللواتي يُعانين الهبّات المتكرّرة أكثر عرضة لمشاكل الذاكرة قصيرة المدى. ما يجعل من الراحة الذهنية تحدّيًا يوميًّا.
كيف يمكن التعامل مع الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية؟
لحسن الحظّ، هناك العديد من الطرق الفعّالة التي تساعد على تخطّي هذه المرحلة براحة.
أولًا، يمكن اعتماد تعديلات بسيطة في نمط الحياة. من المهمّ ارتداء ملابس قطنية خفيفة، وتجنّب الأطعمة الحارة والكافيين، وشرب الماء بانتظام. كما يُفضّل ممارسة تمارين التنفّس العميق واليوغا، فهي تُساعد على تهدئة الجهاز العصبي وتقليل حدّة الهبّات.
ثانيًا، ينصح الأطباء بممارسة الرياضة الهوائية ثلاث مرات أسبوعيًّا على الأقلّ، إذ تؤدّي دورًا فعّالًا في تحسين المزاج وتنظيم الهرمونات الطبيعية في الجسم. وقد أثبتت دراسة نُشرت في The Journal of Women’s Health أنّ النساء اللواتي يمارسن المشي السريع بانتظام يُسجّلن انخفاضًا ملحوظًا في شدّة الهبّات الساخنة بعد ٨ أسابيع فقط.
أمّا في الحالات الشديدة، فيمكن للطبيبة أن توصي بعلاج هرموني بديل (HRT). لكن بعد تقييم شامل للتاريخ الصحي، لأنّ هذا العلاج لا يناسب جميع النساء. بدائل أخرى تشمل مكمّلات المغنيسيوم وفيتامين B6، التي تُسهم في استقرار المزاج وتنظيم النوم.
خطوات نفسية وروحية لتجاوز المرحلة براحة
لا يُمكن إغفال الجانب النفسي والروحي في التعامل مع الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية. فالتقبّل هو الخطوة الأولى نحو التوازن. عندما تدرك المرأة أنّ هذه المرحلة طبيعية وليست نهاية الأنوثة، تبدأ بالتصالح مع جسدها.

من المفيد الانخراط في مجموعات دعم أو جلسات استشارة نفسية، إذ تُساعد المشاركة في تخفيف الشعور بالوحدة أو الارتباك. كذلك، يُنصح بتخصيص وقت يومي للتأمّل أو الكتابة أو المشي في الطبيعة، فهذه الأنشطة تُخفّف الضغط العصبي وتُجدّد الطاقة الإيجابية.
كما أنّ النظام الغذائي الغنيّ بالأوميغا 3 والفواكه والخضار الطازجة يعزّز إنتاج السيروتونين، ما يُحسّن المزاج بشكل طبيعي. وبذلك، يصبح التعامل مع المرحلة أكثر سلاسة وهدوءًا.
الخلاصة
إنّ الهبّات الساخنة والتقلّبات النفسية ليستا عائقًا أمام حياة المرأة، بل إشارة إلى مرحلة جديدة تتطلّب وعيًا ذاتيًّا واهتمامًا أكبر بالصحّة الجسديّة والنفسيّة. ومع الخطوات الصحيحة، يمكن تحويل هذه التجربة من مصدر إزعاج إلى فرصة للتجدّد والنضج. فالمرأة القوية هي التي تُصغي لجسدها وتستجيب له بحكمة لا بخوف. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن طريقة قياس ضغط الدم.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أنّ فهم التغيّرات الهرمونية هو المفتاح لتقبّلها. هذه المرحلة ليست فقدانًا، بل تحوّلًا جميلًا نحو وعي أعمق بالذات. عندما تمنحين نفسك الراحة والعناية التي تستحقينها، ستجدين أنّك أقوى وأكثر اتّزانًا من أيّ وقت مضى.