يظهر التعلّق الزوجي في كل علاقة كعامل نفسي معقّد. أحيانًا يوفّر دفئًا وطمأنينة، وأحيانًا يتحوّل إلى ضغط وانهاك عاطفي. تشير الدراسات في علم النفس إلى أنّ طبيعة هذا التعلّق ترتبط بعمق بالخبرات السابقة وبالطريقة التي يتعامل فيها الشريكان مع مشاعر القرب والانفصال.
في هذا المقال، سنبدأ بتوضيح المفهوم العلمي للتعلّق الزوجي. ثم ننتقل إلى دوره كمصدر أمان، وكيف يمكن أن ينقلب عبئًا، وما العلامات التي تُنذر بخطورته. وبعد ذلك، نسلّط الضوء على أساليب تنظيمه وإصلاحه، وأخيرًا نناقش دور العلاج النفسي والدعم الاجتماعي في ضبط ونجاح العلاقة الزوجية.
التعلّق الزوجي: المفهوم النفسي
يُعتبَر التعلّق في العلاقات مفهوم أساسي في علم النفس التطوّري. يعود أصله إلى أبحاث جون بولبي التي بيّنت أنّ الإنسان يبني أنماطًا داخلية منذ الطفولة. تحدّد هذه الأنماط كيف يتصرّف مع القرب والبعد العاطفي.
عندما ينتقل هذا المفهوم إلى الزواج، يصبح التعلّق الزوجي انعكاسًا لهذه الأنماط. فالشريك ذو التعلّق الآمن يقدّر القرب، لكنه يحافظ على استقلاليته. أمّا الشريك ذو التعلّق القلق فيسعى إلى قرب مفرط. في المقابل، الشريك ذو التعلّق التجنّبي يهرب من الالتزام العاطفي.
توضح الأبحاث المنشورة في دوريات علم النفس العائلي أنّ هذه الأنماط لا تحدّد المصير بشكل قطعي. بل يمكن تعديلها عبر الوعي والممارسة والعلاج عند الحاجة. لذلك يبقى التعلّق الزوجي ديناميكيًا وقابلًا للتغيير.
كما أنّ علم الأعصاب يضيف بعدًا آخر لهذا المفهوم. إذ تُظهر الدراسات أنّ مناطق الدماغ المرتبطة بالمكافأة والنظام العاطفي تنشط عند الشعور بالقرب من الشريك، ممّا يعزّز الإحساس بالأمان. لكن في حال ضعف الثقة أو غياب الاستقرار، يتنشّط النظام المرتبط بالشعور بالتوتر والقلق، فيتحوّل التعلّق إلى عبء نفسي. لذلك يمكن القول إنّ التعلّق ليس فقط سلوكًا اجتماعيًا. بل هو أيضًا عملية بيولوجية معقّدة ترتبط بتوازن هرمونات مثل الأوكسيتوسين والكورتيزول.
متى يصبح التعلّق الزوجي مصدر أمان؟
يصبح التعلّق داعمًا عندما يوفّر الاستقرار. هنا يؤدّي الشريك دور قاعدة آمنة. عند الشعور بالتوتر أو الضغوط، يحسّ الطرف الآخر أنّ هناك من يصغي له ويطمئنه.
أيضًا، التعلّق الإيجابي يعزّز التفاهم بين الزوجين. يشعر كل طرف أنّ وجوده مرحّب به دون شروط. يخفّف هذا الشعور من مستويات الشعور بالقلق النفسي ويزيد من هرمونات السعادة مثل الأوكسيتوسين، كما بيّنت دراسات في علم الأعصاب الاجتماعي.
كذلك، يسهّل هذا النوع من التعلّق تطوير مهارات التواصل. فالزوجان يعبّران عن احتياجاتهما من دون خوف. لذلك ينمو الاحترام المتبادل بين الزوجين، ويصبح الزواج بيئة آمنة للتطوّر الفردي والجماعي.
متى يتحوّل التعلّق الزوجي إلى عبء؟
قد يتحوّل التعلّق إلى ضغط عندما يفقد أحد الطرفين توازنه. إذا أصبح التعلّق مبنيًا على خوف من الفقدان، يتحوّل إلى سيطرة ومراقبة. هنا يظهر الغيرة المفرطة، والاعتماد الزائد، وفقدان الثقة.
أيضًا، يولّد التعلّق غير الصحي صراعات متكرّرة. يشعر الشريك أنّه مقيّد. مع الوقت، ينخفض الرضا عن العلاقة. تشير بعض الدراسات المنشورة في Journal of Marriage and Family إلى أنّ أنماط التعلّق القلقة ترتبط بمستويات عالية من النزاعات الزوجية.
في المقابل، التعلّق التجنّبي يجعل العلاقة باردة. يغيب الدعم العاطفي. وهذا بدوره يولّد شعورًا بالوحدة داخل الزواج نفسه.
كيف يمكن تنظيم التعلّق الزوجي؟
يبدأ التنظيم بالوعي. على كل شريك أن يفهم نمطه العاطفي. هذا يساعده على إدراك سلوكه وقت الأزمات. أيضًا، الحوار الصريح أداة أساسية. عندما يشارك الطرفان مشاعرهما بوضوح، يقلّ سوء الفهم.
إضافةً إلى ذلك، التوازن بين القرب والاستقلال ضروري. يحتاج كل طرف إلى مساحته الخاصة. إنّ وجود الهوايات الفردية والعمل الشخصي يعزّز الشعور بالحرية، من دون أن يقلّل من قوة الارتباط.
كما أنّ الدعم الاجتماعي له أثر مهم. مشاركة التجارب مع أصدقاء أو أقارب موثوقين تتيح للشريكين رؤية أوسع وأقل توترًا. وهنا تؤكّد أبحاث علم النفس الإيجابي أنّ شبكات الدعم تقلّل من الضغط النفسي المرتبط بالعلاقات الزوجية.
دور العلاج النفسي والدعم المهني
في الحالات المُعقَّدة، قد يكون اللجوء إلى العلاج الزوجي خطوة ضرورية. المعالج النفسي يساعد الطرفين على فهم جذور المشكلة. أيضًا يقدّم استراتيجيات لإدارة الصراعات وتنمية التواصل.
أثبت العلاج السلوكي المعرفي فعاليته في تحسين أنماط التعلّق غير الآمنة. فهو يدرّب الفرد على تعديل أفكاره التلقائية السلبية حول العلاقة. كذلك، برامج العلاج القائمة على العاطفة (Emotionally Focused Therapy) تركّز على إعادة بناء الثقة وتعزيز القرب الصحي.
تبيّن الأبحاث الحديثة أنّ الأزواج الذين يخضعون لهذه التدخلات يسجّلون ارتفاعًا في الرضا الزوجي وانخفاضًا في مؤشرات القلق والاكتئاب. لذلك يشكّل العلاج خيارًا علميًا لدعم التعلّق الزوجي حين يخرج عن مساره.
الخلاصة
التعلّق الزوجي ليس ثابتًا بل متحرّك. يمكن أن يكون مصدر أمان إذا بُني على ثقة واحترام وتوازن. لكنّه قد يتحوّل عبئًا إذا ارتبط بالخوف أو السيطرة أو التجنّب. التعامل الواعي، والحوار المستمر، والدعم المهني عند الحاجة، تشكّل جميعها وسائل لحمايته من الانزلاق. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ عن كيفيّة تعزيز الثقه بين الزوجين.
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أنّ التعلّق الزوجي يحتاج إلى وعي عاطفي عميق من الطرفين. لا يكفي أن نعيش قربًا جسديًا، بل يجب أن نحافظ على قرب نفسي متوازن، يتيح الحرية والالتزام معًا. عندما نفهم أنّ التعلّق ليس ملكية بل شراكة، يصبح الزواج ساحة للنمو لا عبئًا على الروح.
