يُعَدّ الصمت بين الأزواج من أكثر الظواهر التي تُثير القلق في الحياة الزوجية. قد ترينه إشارة إلى برود المشاعر أو ابتعاد الشريك، وقد تعتبرينه ناقوس خطر يهدّد الاستقرار. لكن الدراسات النفسيّة والاجتماعيّة تكشف أن الصمت ليس دائمًا علامة سلبية. بل قد يحمل أبعادًا أعمق تتعلّق بالتواصل العاطفي، وضبط الانفعالات، وإيجاد مساحة للتفكير.
في هذا المقال، سنفكك معًا أبعاد هذه الظاهرة، ونتناولها من زوايا علمية وسلوكية متعددة. سنتوقف عند دور الصمت في بناء الفهم العاطفي، ونتساءل متى يكون خطرًا على العلاقة، ومتى يتحوّل إلى وسيلة ذكية لتقوية الروابط.
الصمت كوسيلة للتهدئة وضبط الانفعال
في لحظات التوتر، يلجأ أحد الزوجين أو كلاهما إلى الصمت لتفادي الصدام المباشر. هذا النوع من الصمت، الذي يسمّيه علماء النفس “الصمت الوقائي”، يعمل كآلية دفاعية تسمح بتهدئة الغضب وإعادة تنظيم الأفكار. أحيانًا يكون الكلام في تلك اللحظات وقودًا للنزاع، بينما يمنح الصمت فرصة لتفريغ الانفعال داخليًا من دون إيذاء الطرف الآخر.

تشير دراسة نشرتها American Psychological Association إلى أنّ الامتناع عن الرد الفوري خلال الجدال يخفّض من مستوى هرمون الكورتيزول المسؤول عن الشعور بالقلق والتوتر. وهذا يعني أن الصمت أحيانًا يوفّر للزوجين حماية نفسية، ويمنحهما وقتًا لاستعادة التوازن قبل الدخول في حوار بنّاء. كما أنّ التوقف عن الكلام للحظات قصيرة يتيح للدماغ تنشيط مناطق التفكير المنطقي بدلًا من الانسياق وراء ردود فعل انفعالية. وبذلك، يتحوّل الصمت من فراغ ثقيل إلى وسيلة ذكية لحماية العلاقة من الانفجار.
الصمت كجسر للفهم العاطفي
ليس كل صمت يعني تجاهلًا أو فتورًا. في كثير من الأحيان، يعبّر الصمت عن مشاركة وجدانية لا تحتاج إلى كلمات. يرى علماء الاجتماع أن العلاقات الطويلة الأمد تصل إلى مستوى من الانسجام يجعل الصمت نفسه شكلًا من أشكال التواصل.
فالصمت قد يتحوّل إلى لغة خاصة بين الزوجين، حيث تكفي نظرة أو ابتسامة صغيرة لإيصال رسالة مليئة بالمعاني. وهنا يظهر أثر الخبرة المشتركة في الحياة اليومية، إذ تتراكم المواقف لتُنتج قدرة على قراءة الإشارات الدقيقة. على سبيل المثال، قد يفهم أحد الزوجين من صمت الآخر أنه متعب أو بحاجة إلى دعم، حتى من دون تصريح مباشر.
بحسب دراسة صادرة عن جامعة هارفارد، الأزواج الذين يتقنون “لغة الصمت” يتمتّعون بقدرة أكبر على فهم مشاعر بعضهم من دون كلمات، ما يعزّز الإحساس بالأمان العاطفي ويُخفّف من الشعور بالقلق. لذلك، يمكن اعتبار الصمت بين الأزواج بدايةً لنوع جديد من الفهم العميق، شرط أن لا يتحوّل إلى عادة مستمرة تُعيق التعبير عن الحاجات أو تمنع الشريك من قول ما يريده بوضوح.
متى يصبح الصمت خطرًا على العلاقة؟
رغم فوائده، قد يتحوّل الصمت إلى سلاح صامت يهدّد الزواج إذا استُخدم كوسيلة للعقاب أو التجاهل. هذا النمط، المعروف باسم “الصمت العقابي”، يقود إلى شعور أحد الطرفين بالعزلة العاطفية وفقدان القيمة داخل العلاقة.

توضّح الأبحاث المنشورة في Journal of Marriage and Family أن الأزواج الذين يعتمدون على الصمت العقابي يواجهون خطرًا متزايدًا من الانفصال العاطفي، وهو مؤشر أولي لتدهور الحب والود. إذ إنّ غياب الكلمات لفترة طويلة يولّد شعورًا بالرفض ويضعف الثقة المتبادلة بين الزوجين.
كيف نحوّل الصمت إلى فرصة للتقارب؟
لكي يكون الصمت أداة بنّاءة، يجب أن يُدار بوعي. فبدلًا من تركه يتراكم، يمكن للزوجين الاتفاق على فترات صمت قصيرة لإعادة التفكير، يليها حوار صريح وهادئ.
كما ينصح الخبراء باستخدام لغة الجسد خلال الصمت، مثل النظرات الدافئة أو اللمسات البسيطة، لأنها تُرسل رسائل إيجابية تُخفّف من القلق. كذلك، من المهم توضيح السبب خلف الصمت بعد انتهاء الموقف، حتى لا يُساء فهمه.
هذا التوازن بين الصمت والكلام هو ما يحوّل الظاهرة من عبء ثقيل إلى فرصة حقيقية لإعادة بناء الثقة والانسجام.
البعد العلمي والنفسي للصمت في الزواج
من منظور علم الأعصاب، يُنشّط الصمت مناطق الدماغ المسؤولة عن التفكير العميق، ويساعد على إعادة صياغة الموقف. لذلك، وجود لحظات صامتة في العلاقة لا يعني توقف الحوار، بل يمنح الدماغ فرصة لإعادة ترتيب الأولويات.

كذلك، تؤكد دراسات علم النفس الاجتماعي أن الأزواج الذين يوازنون بين الصمت والكلام يتمتّعون بنسبة أعلى من الاستقرار العاطفي على المدى الطويل. يصبح الصمت هنا مساحة لإعادة شحن الطاقة العاطفية، وليس نهاية للمشاعر.
الخلاصة
في ضوء ما سبق، يتضح أن الصمت بين الأزواج ليس بالضرورة علامة على موت الحب، بل قد يكون بداية لمرحلة أعمق من الفهم. الأمر يعتمد على كيفية استخدامه: إن كان وسيلة للراحة النفسية والفهم المتبادل، فهو قوة إيجابية. أما إذا أصبح عقابًا صامتًا، فهو خطر يهدّد العلاقة.
تتطلّب إدارة هذه الظاهرة وعيًا من الطرفين، وإدراكًا بأنّ التوازن بين التعبير بالكلام والصمت الواعي هو ما يصنع علاقة ناضجة وصحيّة. ومن الجدير بالذكر أنّنا سبق وكشفنا لكِ ما هو “الاعتذار الذكي” وكيف يداوي العلاقة؟
وبرأيي الشخصي كمحرّرة، أرى أن الصمت في العلاقة الزوجية مثل السكين الحاد: قد يُستخدم في الطهو لإعداد أجمل الأطباق، وقد يُستخدم كسلاح يجرح. الأمر يعتمد على نية الطرفين وقدرتهما على تحويل لحظات الصمت إلى مساحة للتأمل، بدلًا من جعلها جدارًا يحجب المشاعر. وأؤمن أن الوعي بحدود الصمت، وإرفاقه بحوار صادق لاحق، يمكن أن يفتح بابًا أوسع للتفاهم والحب العميق.